تباريح الشوق إلى فجاج الأراضي المقدسة والهيام بزيارة المصطفى ضلى الله عليه وسلم والتعرض لنفحات الله ، سيما تطالع القارئ للشعر الشنقيطي حيث يحتل الحج حيزا واسعا في الموسوعة الشعرية الشنقيطية ، وفيما يلي نجوس خلال هذه الموسوعة ، تبينا لمعالم رحلة الحج ومقاصدها ، من خلال الإطلالة التالية :
أولا : الشوق إلى الديار.. الزاد والراحلة إذا كان بعد الدار ، وضيق ذات اليد ، والطريق المهلكة المضلة مما يثني العزم عن السفر عادة فإن لفح الشوق والإحساس بالذنب والولع عوامل تحطم هاجس التردد وتدفع بالشاعر إلى الاقتحام والتجلد والترفع عن النوازع الأرضية ، وفي هذا الصدد نقرأ قصيدة الشاعر محمد ولد محمدي : تجلَّدْ جهْدَ نفسِك للفراقِ = وكَفكِفْ غَرْبَ سافحةِ المآقي وجرِّدْ من عزيمِكِ ما يُوازي = مُترّاتِ الـمُهنَّدة الرِّقاق وهكذا يكبر الشوق إلى البلاد فيغدو عشقها مثارا للدمع والحسرة.
يقول الشيخ محمد بن محمد سالم : أتذرى عينه فضض الجمان * غراما من تذكره المغانى مغان بالعقيق فبالمنقى * إلى أحد تذكرها شجانى ومن تذكار منزلة بسلع * إلى الجمى تعانى ماتعانى وإذا كان الشوق هو زاد الحاج فإنه مع ذالك يستعين بوجناء تقطع البيد وتبذ المراكب : فهل أغدوا بكور الطير رحلى * على وجناء دوسرة هجان تبذ العيس لاحقة كلاها * وتفرى البيد مسنفة اللبان أو هي كما يقول بن محمدى حين يحدوا صاحبه إلى الرحيل قائلا : إلى البيت العتيق بنص إحدى * عتاق الكوم أو أحد العتاق بنص شملة تحدوا بعال * قراها عدو منفرد اللهاقى لو ارسلها وقد لحقت كلاها * على خرجاء أيقن باللحاق ثانيا : هجرة إلى الله : بان الرسول وبانت عنك طيبته * إن الأحبة و الأوطان أعداء ذلك تلخيص جميل للحالة النفسية التى تنتاب الشاعر بعد أن أفاض من المناسك ، أما ترفعه عن النوازع النفسية وهو في بلاده فإن الشاعر الشيخ أبو مدين ولد الشيخ أحمدو ولد سليمان يوجزه في همزيته الرائعة حين يقول : كيف الدواء لداء لا يفارقنى * أم كيف يرجى شفاء بعد إشفاء يا أهل ودي كفوا بعض عذلكم * اولى بكم لو عذرتم يا أوداء سيان عذلكم عندى وعذركم * لا فرق عندي بين اللام والراء عوجو المطي إلى البيت العتيق ففى * بلوغه نيل آمالى وأهواء وهكذا يكون الشوق إلى الحج داع للتصامم عن من يزعم النصح لأنه هجرة إلى الله يتجرد صاحبها من كل ما يدعوه إلى الخلود إلى الارض و الأهلين ، يقول ولد محمدى : ونكب عن مقال أخ الهوينا * وعنها فهي خاسرة الصفاق وعن باك وباكية أراقا * دموعا ليس واكفها براق ثالثا : حج وزيارة : و إلى جانب المقصد الواجب ـ مقصد الحج وتأدية المناسك ـ فإن زيارة القبر المشرف والتمتع بلحظة المواجهة والقبس من أنوار النبوة والتوسل بالنبي إلى الله كل ذلك من أسمى المقاصد التى يجرد الشاعر نيته لها فيولى وجهه نحو النبي الكريم : وإن طبنا بطيبتنا نفوسا * تنادينا لطيبة بانطلاق فوافينا الحبيب وذاك أوفى * وأوفر ما نؤمل من خلاق رابعا : بطاقة رحلة : إن ترسم معالم الرحلة الشنقيطية إلى بيت الله و صحبة الشعراء في أداء مناسكهم مما يكل عنه القلم لولا أن ريشة الشعراء صورته لنا فواكبت الرحلة من المنطلق إلى النهاية ، ولعل نونية الشيخ سيد محمد ولد الشيبخ سيديا تعطينا الصورة الكاملة لمعالم هذه الرحلة : وَيَحْدُوهَا الْحَنِينُ إِلَى حُنَيْنِ قَوَاصِدَ رَابِغًا تَبْغِي اغْتِسَالاً وَإِحْرَامًا لَدَيْهِ وَرَكْعَتَيْنِ تَمُرُّ بِذِي طُوًى مُتَنَاسِيَاتٍ لِفَرْطِ الشَّوْقِ كُلَّ طُوًى وَغَيْنِ مِنَ التَّنْعِيمِ يَدْعُوهَا كَدَاءٌ إِلَى الْبَطْحَاءِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى بَابِ السَّلاَمِ مُسَلِّمَاتٍ بِتَطْوَافٍ وَسَعْيٍ عَاجِلَيْنِ تُنَاخُ لِحَاجَتِي دُنْيَا وَأُخْرَى هُنَاكَ فَتَنْثَنِي بِالحَاجَتِينِ بِبَيْتِ اللَّهِ مَلْمَسُ كُلِّ حَاجٍّ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كَيْفٍ وَأَيْنِ حِمًى إِنْ أَمَّهُ لاَجٍ وَرَاحٍ يَكُونَا آمِنَيْنِ وَغَانِمَيْنِ إِلَى خَيْفِ الْمُحَصَّبِ رَائِحَاتٍ بِكُلِّ أشَمَّ ضَاحِي الْوَجْنَتَيْنِ وَتَغْدُو بِالشُّرُوقِ مُبَادِرَاتٍ بِنَا إِجَلاَ نَعَامٍ جَافِلَيْنِ مِنَ التَّعْرِيفِ مَسْيًا صَادِرَاتٍ يَخُدْنَ مُنَكَّبَاتِ الْمَأْزِمَيْنِ وَمِنْ جُمَعٍ يَسِرْنَ مُفَلِّسَاتٍ لِوَقْفَةِ سَاعَةٍ بِالْمَشْعَرَيْنِ بِبَطْنِ مُحَسِّرٍ مُتَرَامِيَاتٍ لِأُولَى الْجَمْرِ دُونَ الْأُخْرَيَيْنِ وَتَرْجِعُ إِنْ أَفَاضَتْ لاَبِثَاتٍ ثَلاَثَ لَيَائِلٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ وَلِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ مُوَدِّعَاتٍ قَدِ ارْتاحَتْ لِإِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ وَأُخْرَى لَمْ تَكُنْ لِتَنَالَ إِلاَّ مُرُورَ مَحَلِّ إِحْدَى الْهِجْرَتَيْنِ إِلَيْهَا مِنْ كُدًى يَهْبِطْنَ صُبْحًا هُبُوطَ السَّيْلِ بَيْنَ الْقُنَّتَيْنِ تَوَخَّى مَسْجِدَ التَّقْوَى، تَحَرَّى مَنَاخَ مُحَمَّدٍ وَالصَّاحِبَيْنِ تَمُرُّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَالِفَاتٍ عَلَى الْأَلْبَابِ بَيْنَ اللاَّبَتَيْنِ فَتَسْتَقْصِي بِهَا الرُّكَبَاتُ مِنْهَا مِنَ الْقُصْوَى مَكَانَ الرُّكْبَتَيْنِ وَلاَ تُلْقِي عِصِيَّ السَّيْرِ إِلاَّ إِذَا وَصَلتْ لِثَانِي الْمَسْجِدَيْنِ ضَرِيحِ الْمُصْطَفَى صَلَّى عَلَيْهِ مَعَ التَّسْلِيمِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ يَحُفُّ خَلِيفَتَاهُ بِهِ، فَأَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ مُصْطَفًى وَخَلِيفَتَيْنِ وَأَصْحَابُ الْبَقِيعِ وَمَنْ حَوَتْهُ مِنَ الْأَبْرَارِ كِلْتَا الْبُقْعَتَيْنِ جُزُوا عَنَّا بِرَيْحَانٍ وَرَوْحٍ عَلَيْهِمْ لَنْ يَزَالاَ دَائِمَيْنِ وَأُوتُوا جَنَّتَيْنِ دَنَتْ عَلَيْهِمْ بِخَيْرِ جَنَى ظِلاَلِ الْجَنَّتَيْنِ أُولاَكَ النَّاسُ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا حُمَاةُ الدِّينِ بِالْأَسَلِ الرُّدَيْنِي خامسا : ملاحظات ختامية : تلك إطلالة عجلة على أدب الحج في الشعر الشنقيطي لكنها تمكن من الملاحظات التالية : 1 ـ الشعر الشنقيطي في الحج أدب ثر ، يندرج في زوايا مختلفة من الأدب ، فهو أدب ديني يعج قاموسه بالمصطلحات الشرعية وهو أدب رحلة فيه وصف الرحلة ومغامراتها وسمات المركب وصفات الصاحب وزاد الطريق ، وهو أدب مديح مفعم بحرارة الشوق إلى ساكن طيبة . 2 ـ إلى جانب هذا الأدب فإن الشناقطة اعتادوا الترحاب بالقادم من البلاد المقدسة وهو نوع من الإحتفاء بالحج يشكل بمفرده موسوعة تستحق الدراسة والعناية كما أن بعض الشعراء الشناقطة اعتاد على نظم رحلته رجزا . 3 ـ لم تعن هذه العجالة بتقصى كل النصوص الشعرية وإنما اكتفت ببعضها عسى أن يبسط الحديث عن البقية في سانحة قادمة .
|