الخوف من الله/الشيخ أحمد الزومان |
الأربعاء, 25 ديسمبر 2013 13:04 |
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18] أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عباد الله، مما افترض الله على كل أحد منا الخوف منه ومن وعيده؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾، ومدح أهل الخوف في كتابه وأثنى عليهم.
والخوف من الله ووعده ووعيده، من أعظم ما ينتفع به المسلم في طريقه إلى ربه، فهو أصل كل خير في الدنيا والآخرة، فالقلب في سيره إلى الله - عز وجل - بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان، فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان، فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
وربما يظن أن كل خوف محمود، فكلما كان أقوى وأكثر، كان أحمد، وهذا الظن غلط، بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل؛ لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى والأصلح للبهيمة ألا تخلو عن سوط، ولكن ليست المبالغة في الضرب محمودة؛ فالخوف له قصور وإفراط واعتدال، والمحمود هو الاعتدال الوسط، فالخوف المحمود هو الذي يكف الجوارح عن المعاصي، ويقيدها بالطاعات، وما لم يؤثر في الجوارح، فهو حديث نفس، وحركة خاطر، لا يستحق أن يسمى خوفًا، فكل ما يراد لأمر، فالمحمود منه ما يُفضي إلى المراد المقصود منه، وما يقصر عنه أو يجاوزه، فهو مذموم.
إخواني يقول ربنا - عز وجل -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41].
فمن ظَفَرَ بنفسه أفلح ونجح، ومن ظَفَرَت به نفسه خسِر وهلك؛ فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة، وهذا موضع الابتلاء والاختبار، ففعل العبد للأشياء التي يكرهها لمخالفتها هواه وصبره عليها، كشرب الدواء المكروه، فإن هذه الأمور وإن كانت مكروهة من بعض الوجوه، فإنما يفعلها لمحبةٍ وإرادةٍ، وإن لم تكن المحبة لنفسها، بل المحبة لما يؤل إليه - فإنه يحب العافية المستلزمة لإرادة شرب الدواء، ويحب رحمة الله ونجاته من عذابه المستلزم لإرادة ترك ما يهواه، فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، لكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة.
ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تقمع الشهوة بشيء كما تقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرِّب إلى الله زُلفى.
فأهل الخوف في الدنيا هم أهل الأمن في الآخرة، فلا يجمع الله على عبده خوفين، فأهل الخوف في الدنيا هم أهل الجنة في الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾، وقال: ﴿ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه بين يدى الله، فيتركها خوفًا من الله.
أهل الخوف في الدنيا هم الناجون من عذاب الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴾ [الطور: 26]، وقال: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27]، وقال: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
أهل الخوف في الدنيا هم الممكن لهم فيها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 14] فوعد بنصر الدنيا وبثواب الآخرة لأهل الخوف.
أهل الخوف في الدنيا هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ، وذكر منهم رجلاً ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه"؛ رواه البخاري ومسلم.
إخوتي، قوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله وصفاته وأفعاله، وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال، وأقل درجات الخوف ما يظهر أثره في الأعمال، فيمنع من المحظورات؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال: 2].
فوجل القلب من ذكره يتضمن خشيته ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المنهي، فإذا همَّ بمعصية أو ترك واجب، تذكَّر الله أو ذُكِّر بالله، خاف وفعل المأمور وترك المحظور.
ومن أعظم مراتب الخوف هيبة الله - عز وجل - وأكثر ما تكون أوقات المناجاة، وهو وقت تملُّق العبد لربه وتضرُّعه بين يديه، واستعطافه والثناء عليه بآلائه وأسمائه وأوصافه، مناجاته بكلامه، وهذه المناجاة توجب هيبة لله ووقارًا وإجلالاً، وكُلَّما كان العبد بربه أعرف وإليه أقرب، كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم.
فالخشية من العلماء بالله خوف مقرون بمعرفة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾.
وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا"؛ رواه البخاري من حديث عائشة.
ولما اشتدَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه، قيل له في الصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، قال: مروه فيصلي؛ رواه البخاري ومسلم.
وأخبر الله تعالى أن كل من خشي الله فهو عالم، فالعلم هو الخشية؛ يقول ربُّنا تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].
فأهل الخوف لله والرجاء له، هم أهل العلم الذين مدحهم الله. الخطبة الثانية الحمد لله مؤمن الخائفين والصلاة والسلام على إمام الخائفين وبعدُ: فمن أسباب تحصيل الخوف: استحضار المخوف، وجعله نصب العين؛ بحيث لا ينسى، فنسيانه وعدم مراقبته يحول بين القلب وبين الخوف.
ومن أسباب تحصيله معرفة عيوب النفس، ومعرفة جلال الله تعالى، واستغنائه، وأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فإذا كملت المعرفة أورثَت الخوف، ثم يفيض أثره من القلب على الجوارح.
إخواني، الأخبار في فضل الخوف والرجاء كثيرة، وربما سأل سائل فقال: الخوف أفضل أم الرجاء؟ فيقال الخوف والرجاء دواءَان تُداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب الداء الموجود، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به، فالخوف أفضل، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله، فالرجاء أفضل، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية، فالخوف أفضل؛ قال ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين: يجب أن يكون واعظ الناس متلطفًا ناظرًا إلى مواضع العلل، معالجًا كلَّ علة بما يليق بها، وهذا الزمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء، بل المبالغة في التخويف؛ ا.هـ.
لكن في حال الاحتضار يغلب الرجاء؛ فعن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله - عز وجل؛ رواه مسلم.
وقال أحمد بن حنبل - رضي الله تعالى عنه - لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن، والمقصود من ذلك كله أن يحب المُحتضَر لقاء الله تعالى، فيحب الله تعالى لقاءه.
سُئل الحسن فقيل له: إنا نلقى أناسًا يخوفوننا، فقال: من خوَّفك حتى تلقى الأمن، خير ممن أمَّنك حتى تلقى المخافة.
إخواني، ألا نخاف الموت قبل التوبة! ألا نخاف الميل عن الاستقامة! ألا نخاف الاستدراج بتوافر النعم؟ ألا نخاف انكشاف عدم الصدق في عباداتنا؛ حيث يبدو لنا من الله ما لم نكن نحتسب! ألا نخاف خاتمة السوء عند الموت! ألا نخاف سؤال منكر ونكير! ألا نخاف عذاب القبر وهول المطلع! ألا نخاف هيبة الموقف بين يدي الله تعالى، والحياء من كشف الستر! والسؤال عن الصغير والكبير! ألا نخاف الصراط! ألا نخاف من الحجاب عن الله تعالى يوم القيامة، فأفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق، هو النظر إلى وجه الرب - عز وجل - وسماع خطابه، ففي صحيح مسلم عن صُهيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، قال يقول الله - تبارك وتعالى - تريدون شيئًا أزيدكم، فيقولون: ألم تُبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنجنا من النار؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فما أعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل - ثم تلا هذه الآية: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فما يحصل لهم به من اللذة والنعيم، والفرح والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين؛ ولهذا قال - سبحانه وتعالى - في حق الكفار: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴾ [المطففين: 15، 16].
فجمع عليهم نوعي العذاب - عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه - كما جمع لأوليائه نوعي النعيم؛ نعيم التمتع بما في الجنة، ونعيم التمتع برؤيته. |