هكذا ينقص العلم في ذكرى رحيل المرابط/ أبو إسحاق الدويري |
الاثنين, 17 يونيو 2013 09:51 |
كثيرا ما أرقني حديث نقص العلم بموت العلماء، وذلك أن الحديث ربط نقص العلم بحدوث فاجعة للأمة؛ وأي فاجعة أشد على الأمم من موت علمائها، وقد تتبعت شيئا من تاريخ نقص العلوم فهالني ما رأيت من سرعة وفداحة هذا النقص المتزايد كل يوم. فمثلا في الشعر والأدب ترى ابن قتيبة يسوق بسنده في (الشعر والشعراء) عن "كردينُ بن مسمعٍ، قال: جاء فتيانٌ إلى أبي ضمضمٍ بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم، كبر الشيخ فنتلعبه عسى أن نأخذ عليه سقطةٌ ! فأنشدهم لمائة شاعرٍ، وقال مرة أخرى، لثمانين شاعراً، كلهم اسمه عمروٌ.قال الأصمعي: فعددتُ أنا وخلفٌ الأحمر فلم نقدر على ثلاثين" فالأصمعي وخلف على جلالة قدرهما لم يستطيعا إحصاء أكثر من ثلاثين على كثرة الرواية في ذلك الزمن مع أن أبا ضمضم غير مشهور ولا معروف بالرواية، وفي شأن نقص النحو وفساد اللسان حكى ابن بطوطة في رحلته ما أسماها "حكاية اعتبار" حين مقامه بالبصرة منشإ النحو وأصله، فقد قال "شهدت مرة بهذا المسجد صلاة الجمعة، فلما قام الخطيب إلى الخطبة وسردها، لحن فيها لحناً كثيراً جلياً، فعجبت من أمره، وذكرت ذلك للقاضي حجة الدين. فقال لي: إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئاً من علم النحو. وهذه عبرة لمن تفكر فيها. سبحان مغير الأشياء ومقلب الأمور. هذه البصرة التي إلى أهلها انتهت رياسة النحو، وفيها أصله وفرعه، ومن أهلها إمامه الذي لا ينكر سبقه، لا يقيم خطيبها خطبة الجمعة على دؤوبه عليها" وإن في الحكاية لعجبا عجابا، وفي التفسير والاستنباط حدثني شيخي الشيخ خيار -حفظه الله ونفع به- أن القاضي ابن العربي المالكي ورفقة معه سمعوا أن من قبلهم كان يستنبط من آية الوضوء ثمانمائة حكم، وقد حاول القاضي مع رفقته فما وصلوا المأتين. قلت:ولو جمع أهل المشرق والمغرب الآن في صعيد واحد لما وصلوا إلى العشرين حكما. أسوق هذا الكلام في الحديث عن ذكرى عالم قبض بموته علم كثير، بل ما ذكر أعلاه مما بقي من شعر ونحو وتفسير رفع مع المرابط عدود. في يوم من أيام الله رمت بي المقادير إلى قرية "المراد" شرقي جنوب تكند لأحظى بيوم عامر بالأدب والعلم في رحاب العلامة اطفيل ولد الواثق، وكنت ورفاقي ساعتها مولعين بالبحث عن مزايا العلماء وخصائص كل واحد منهم على حدة، وممن سألنا ابن الواثق عنهم المرابط الناه، فلما سئل انتفض جالسا، وقال لنا:" فاق عدود أهل عصره بالفصاحة واستحضار محفوظه"، وأضاف :علم عدود معه سواء كان في شهلات أو بغداد أو باريس" ولقد صدق ابن الواثق في وصف معاصره، وتلك مزية يعرفها عن الشيخ عدود كل من سمعه، لكن من قاربه، وهم كثر ولله الحمد يلاحظ خصائص تفرد بها العلامة في تدريسه وتعاطيه مع الوافدين الكثر. العلامة القرءاني وظف المرابط عدود خبرته في العربية في اسنتباط كتاب الله وتدبره، فقد كان كثير التنبيهات على دقائق القرءان، ولم يكن يقلد في ذلك أحدا، ومن أقواله الشهير" أنه لا يقلدفي فهم دقائق القرآن العربي المبين الزمخشري وأبا السعود" مع ولع الناس بهما وانبهارهم بنكتهما، وكان الشيخ كثير التنبيه على اختلاف الأساليب القرآنية في مقام الوعد والعيد، وأذكر من ذلك خواتيم سورة مريم في شأن زعم الكفار اتخاذ الله جل جلاله للولد، فيقول الشيخ "انظر إلى التعبير القرآني الذي جعل حرف الدال الشديد فاصلة هنا بما يمثل ذلك من قوة وشدة في إنكار زعم الكافرين وتوعدهم" ومن قرأ الآية بتدبر فهم مراد الشيخ. .-. والأخ الأستاذ إبراهيم ولد أحمد سالم يعرف كثيرا من تلك التنبيهات والاستنباطات-.كما كان الشيخ محبا للاستشهاد بالقرآن في ضرب الأمثلة النحوية، ويستنكر على النحاة عدم اعتنائهم بضرب الأمثلة من الكتاب العزيز، ومن ذلك أن النحاة يضربون المثل للاسم المعرف باللام بقول أبي الطيب الذي جمع سبع كلمات معرفات باللام: الخليل والليل والبيداء تعرفني .... والسيف والرمح والقرطاس والقلم ولم ينتبهوا إلى أن الآية جمع أكثر من ثمانية تعريفات وهي قول الله عز وجل في سورة إبراهيم{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} كما أنهم يضربون المثل لتاء التأنيث بقول الشاعر جعفر بن علبة: ألمت فحيت ثم قامت وودعت .... فلما تولت كادت النفس تزهق مع أن تاءها أكثر في سورة التكوير. وكان يضرب المثل للاسم المقصور مرفوعا ومنصوبا ومجرورا في آية واحدة بقول الله تعالى في سورة الأنعام {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. ويضرب المثل للاسم المبني في أحوال الرفع والنصب والجر بقول الله تعالى في سورة الأحقافوَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} .... أما تلاوة الشيخ وطول قيامه فيعرفها كل من كان يقوم من مرقده بعد الإقامة ويتجهز، ويمشي مسافة ليست بالقصيرة ويلحق الركعة الأولى باطمئنان.... إلخ الحبر المتواضع كان المرابط عدود كلما زاده الله رفعة ازداد تواضعا لله والناس، كان الشيخ الوزير والعلامة الأجل يمازح بسطاء الطلبة وينصت إليهم بهدوء وتواضع، كما كان كل طالب يظن أنه من خاصته، ومن بديع تواضعه أن الشيخ كان يدرس لامية الأفعال وكان يقرر أن كلمة أناب رباعية فقط أي لا يوجد لها ثلاثي، ثم عثر طالب جزائري على ثلاثي لها في القاموس المحيط، فقال المرابط ناظما ذلك فيما أنشدنيه شيخي الشيخ بوي حفظه الله: وأناب فيه ناب وانتمى ... لباب أوحى لا لباب أقسما وذا من القاموس يستفاد .... أفادنيه صاحبي مراد وفي رواية: وذاك في قاموسنا منقوش .... أفادنيه صاحبي عنكوش.. .... فانظر -أيها المغرور بغُبَّرات علم- إلى تواضع هذا الجبل الأشم وجعله طالبه صاحبا يستفيد منه. كما كان الشيخ يحث الطلاب على مواصلة طلب العلم، ويقول لهم اطلبوه حيث شئتم، المهم أن تواصلوا، ويضيف : "أنا لست مثل المتسول الذي يحض الناس على الإنفاق ويقصد بذلك التصدق عليه فقط" الشيخ البكاء كان المرابط عدود قريب الدمعة شديد التأثر بالقرآن والحديث والشعر، فقد رأيته باكيا من القرآن الكريم، ومن كتاب المغازي والسير في صحيح البخاري حين عرضه عليه، كما رأيته يمسح دموعه بعد إنشاده رائعة المتنبي: على قدر أهل العزم تاتي العزائم .... وتاتي على قدر الكرام المكارم وكان الشيخ كثيرا ما يقرأ الشعر على رواية ورش. مراثي العلامة نثر الشعراء حزنهم على العلامة عدود نثرا، وعبروا بحق عم ذلك المصاب الجلل الذي حل بأم القرى ومن حولها، لكن مرثية الخليل النحوي جمعت إلى الشاعرية الوعي التاريخي بقيمة العباقرة والأفذاذ فاقرأوها... الكلام على مناقب المرابط لاحصر لها ولا منتهى. فرحم الله المرابط عدودا وجزاه ما جازى معلما عن بث العلم، وبارك في خلفه، وجعلهم من الصالحين المهديين... |