بصائر قرآنية الحلقة 1/ علي ولد محفوظ |
الثلاثاء, 18 يونيو 2013 11:56 |
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد الذي ليس كمثله شيء السميع البصير. وصلى الله على النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، وبعد: فالله المسئول الإخلاص في القول والعمل، أسأله سبحانه أن يجعل هذه البصائر القرآنية مما ينفع الناس ويمكث في الأرض إنه وهاب كريم. وقد بدأتها بهذه السلسلة المباركة إن شاء الله تعالى من أمثال القرآن وقد قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾وقال جل من قائل: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقال جل شأنه:﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ وقال تقدس اسمه:﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ وقال عز وجل:﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ﴾ وقال سبحانه:﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾. فالقرآن كله حقيق بالتدبر والمدارسة، والأمثال على وجه الخصوص لها مزيد اختصاص من ذلك، ذلك أن عقلها قصر على العالمين، فاستدعى ذلك تدارسها عل العلم أن ينجلي للسالكين فتبصر ببصائر القرآن سواء الصراط وتهتدي إليه وتثبت عليه. والله المسئول الإخلاص بدءا وختاما وحسن الخاتمة. وسبحان الله العزيز الحكيم وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
البصيرة الأولى (تجلية المنافق): ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ +صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ +أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ +يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. قال أبو فراس: عرفت الشَّرَّ لا للشَّـ ****ــــــــــــر لكـن لتوقِّـــيهِ ومن لا يعرف الشَّر ****ر من النَّاس يقع فيـهِ تناول مطلع سورة البقرة الناس وقسمهم إلى أصناف ثلاث، ولما كان صنف المؤمنون السعداء ظاهرا جليا وصنف الكافرين الأشقياء واضحا اقتضى الحال أن لا تضرب الأمثال لبيانهما، ذلك أن الأمثال وسيلة من وسائل البيان. ولما كان الصنف الثالث، وهو المنافقون الخاسرون غامضا خفيا اقتضى الحال توظيف المثال بيانا وتخويفا. المثل الأول: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ +صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾. يشتمل كل مثل على ممثل له وممثل به، وهما طرفا معادلة المثل، ويمكن كتابتها بالنسبة لهذا المثل كالتالي: حال المنافق1 = مستوقدا+ نارا+نورا+ظلمات+روابط تضم هذه المعادلة في الطرف الثاني منها عناصر المثل تضاف إليه الروابط التي هي علاقة العناصر فيما بينها في الأحوال المتعددة. من خلال هذه المعادلة تتضح لنا العناصر جلية، واتضاحها يمثل أو ل خطوة علمية عملية سبيلا إلى عقلها، وهنا نرجع لاجتهادات المفسرين لاستجلاء مقابلات هذه العناصر من طرف المعادلة الآخر (حال المنافق)، قال ابن كثير رحمه الله: (وتقدير هذا المثل: أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم). وما ذكره ابن كثير مروي عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم نحوه، وهو أقرب الاجتهادات للصواب فيما يبدو، وذلك أن هؤلاء الأشقياء والعياذ بالله أخرجهم أولياؤهم من شياطينهم الطواغيت الذين كانوا يكثرون لقاءهم ومجالستهم من النور إلى الظلمات بعد أن كانوا مؤمنين، والحالة أن الظلمة تكون أشد إذا تقدم قبلها ضياء، وهذا المثل الأول للمنافق الخالص الذي كفر بالله بعد الإيمان والعياذ بالله فهو لا يرجع إلى الإيمان، لذلك قال الله تعالى عنهم: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾وقال عن الكافرين: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾. فقال سبحانه في المنافقين﴿ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ لأنهم عقلوا ثم أنكروا، وقال في الكافرين: ﴿لاَ يَعْقِلُونَ ﴾لأنهم لم يعقلوا أصلا فقد ختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. ويدل هذا المعنى أن المثل الآتي هو لصنف آخر من المنافقين دون الأول لأن الله تعالى أثبت لهم بعض الإدراك غير المنتفع به، والدليل على ذلك قوله سبحانه: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾، والآن لبيان المثل الثاني. المثل الثاني: قال تعالى:﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ +يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. معادلة المثال: حال المنافق2= صيب+ظلمات+رعد+برق+الصواعق+الأصابع+الآذان+الروابط. تضم هذه المعادلة في الطرف الثاني منها كل عناصر المثل تضاف إليه الروابط التي هي علاقة العناصر فيما بينها في الأحوال المتعددة كما تقدم. قال ابن كثير رحمه الله: (وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ﴿كَصَيِّبٍ ﴾والصيب: المطر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة، وعطية العَوْفِي، وعطاء الخراساني، والسُّدي، والرّبيع بن أنس. وقال الضحاك: هو السحاب. والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق. ﴿وَرَعْدٌ ﴾وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ﴾. وقال: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾. والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛ ولهذا قال: ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أي: ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأن الله محيط بهم بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾). فماء الصيب الوحي به تحيا القلوب ونور البرق ما يعرض من إدراك فجأة للآيات إذا انقشعت ظلمة الشبهة. فالمنافق المتردد المرتاب الشاك والعياذ بالله، ربما سطع له النور فمشى في سبيل الحق فإذا أظلم عليه توقف عن الخير، والصواب أن يواصل الخير ويلجأ إلى الله تبارك وتعالى ليخرجه من الظلمات إلى النور، فإنه لا بد من الاستعانة الدائمة بالله تعالى وذكره وتسبيحه بكرة وأصيلا ليخرجنا من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ +اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾وقال سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا +وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً +هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا +﴾. وقال جل من قائل:﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ +﴾. فالفرق بين ما يعرض للمؤمن من الشبهة وما يعرض للمنافق المتردد من وجهين: الأول من حيث الشبهة: أن الحال الغالب على المنافق هو الشك والتردد والحيرة عياذا بالله، بينما المؤمن حال الشبهة عارض طائف ما له من قرار. الثاني من حيث التعامل معها: فإن المنافق يتعامل سلبيا مع هذه الظلمات: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. بينما المؤمن يتعامل معها إيجابيا فتسبب له افتقارا وانكسارا ودعاء ولجئا إلى الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، وذكرا وتسبيحا فيغلب نور الذكر والدعاء عليها وينقلب جند الشيطان خاسئا وهو حسير. والله أسأل أن ينير بصائرنا بالقرآن العظيم، وأن يجعله حجة لنا يوم القيامة لا حجة.
|