سورة الضحى تهدئة لقلب مكلوم/سيد ولد عيسى |
الأربعاء, 26 فبراير 2014 00:43 |
أثناء مكابدة الناس ومعاناتهم يعاني الداعية شر الناس وحديثهم، ويحتاج صلة بالله تؤنسه إذا حزن، وتنير له الطريق إذا أظلم، وتبعث فيها الأمل إذا يئس، وفي هذا السياق جاءت صورة الضحى، تؤنس النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكره بنعم الله عليه، وتنفي عنه ما انتحله المبطلون المكذبون الجاحدون، وما نبزوه به مما لا يليق به كقلى الله له، وتركه إياه وحيدا يعاني التكذيب وعنت الملحدين. وفي السورة تذكير يعيد الداعية إلى رشده، ويذكره بنعم الله عليه، ويفتح له باب الأمل على مصراعيه، ويؤنسه حال وحدته في الطريق، ففيها أنس للسالك، ورحمة بالداعية، وأمل بالنصر... وشكل السورة شكل عجيب يبدأ بثنائية تشكل مقدمة مختصرة، ثم رباعية، فثلاثيتين متتاليتين، تشكل الثانية منهما خاتمة رصينة، خاصة في شقها الثالث الأخير. ورد في سورة الضحى القسم بالليل والنهار في شباب كل منهما وأشد ما يكون تماما وكمالا في مجاله، فجاء القسم بالنهار في وقت الضحى، حين ترتفع الشمس مقبلة على الكون مادة أشرعتها على الحياة، وقد صحا كل شيء تحت حرارتها وتحرك كل شيء في ضيائها.. لتبدأ المخلوقات رحلة السعي والكدح للمعاش... وجاء القسم بالليل في اشتداد ظلامه حين يرخي سدوله، وينوء بكلكله، وقد غاضت النجوم، وهدأت العيون، فسجى الليل سكنا للعباد، وسباتا للعيون والأجسام... والقسم بالضحى المنير، والليل الساجي قسم بمزدوجين متناقضين (منير/مظلم) ولكنهما في نفس الوقت متكاملان متعاونان لا تستمر الحياة، ولا يستقيم أمرها إلا بهما، "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء"؟ " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل.."؟، وكأن ازدواج الليل والنهار يبسط ازدواج حالات النفس بين رضى وسخط، بين خوف ورجاء بين أمل وألم.... ثم جاء المقسوم عليه في أربع جمل وأربع نقاط، اثنتان تمثلان خبرين عن الماضي، اثنتان تمثلان خبرين عن المستقبل.. الأول: ما ودعك ربك: وهو خبر مطمئن، صيغته دالة على الماضي، مبشرة لأن الفعل الماضي دال على بقاء الصفة وثباتها باعتبارها مخبرا عنها، والمخبر عنه لا يتغير، ولا يتبدل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يودعه ربه، ولم يتركه، وتأخر الوحي عن النزول لا صلة له بما يتوهمه الكافرون والمنافقون. والتعبير بصفة "الرب" ملمح جميل لما يقتضيه من إشارة إلى الربوبية والرعاية، والعناية كما سيضح في باقي آيات السورة. وحين كان السياق سياق إثبات جاءت الأحرف أكثر وضمائر الخطاب متراصة، "ما ودعك ربك"، بعكس الجملة الثانية، التي جاءت مقتضبة مختصرة بدون ضمائر. الثاني: وما قلى: وهو أيضا خبر عن الماضي دال على حب الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مطمئن كسابقه على الماضي، مفند لدعاوى المكذبين، وحذف المفعول في قلى، ليس بالضرورة لتناسب خواتيم الآيات على آهمية ذلك ولكنه والله أعلم، للإشارة إلى أن كل متعلقات النبي صلى الله عليه وسلم محبوبة عند الله جلت قدرته وتعالى عن كل شبيه ونظير، سواء تعلق الأمر بذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم، أو بأفعاله وأقواله.. والفرق بينه وبين الفعل السابق ودع واضح، فتوديع بعض المتعلقات لا يعني توديع متعلقها، بينما قلى كل متعلقات المحبوب يعود عليه بالقلى، فناسب الأول ذكر المفعول، وناسب الثاني حذفه. الثالثة: وللآخرة خير لك من الأولى: وفي هذه الآية جاء الخبر عن الآتي بالصيغة الإسمية الدالة على الثبات والدوام، فالآخرة خير للنبي صلى الله عليه وسلم من الأولى مطلقا، سواء كانت الآخرة الكلية التي فيها الجزاء والعقاب والثواب، أم الآخرة الجزئية أي المرة من الدورات القدرية بعد الأخرى، فكل ذلك فيه الخير للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كرات القدر لا تخلو من احتمالين: إما أن يكون فيها حياة للني صلى الله عليه وسلم، فهي زيادة عمل صالح، وقرب من الله، وتمكين للدين والدعوة، أو قبض لروحه، ففيها كل الخير إذ فيها الجزاء والأجر غير الممنون... الرابعة: "ولسوف يعطيك ربك فترضى": وفي هذه الجملة إخبار عن الماضي بصيغة الفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار المؤذن بأن عطاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم غير منقطع، بل مستمر دائم متجدد، بينما عبر عن الجزاء بصيغة الماضي فترضى، وكأن جمال العطاء الموعود متحقق الوقوع لدرجة يمكن الإخبار فيها عنه بصيغة الماضي "فترضى". وفي هذه الآية أيضا تكثر الأحرف لأنها في صيغة الوعد وتتدد الضمائر، يعطيك ربك، ويتكرر ذكر الرب جل وعلا، بالإضافة إلى تاء الخطاب ترضى، وكل ذلك للإيناس والتسلية والإشعار بالرعاية والعناية. ولذلك جاءت الآيات التالية لهذه الآية وكأنها تدلل على صدق موعودات المستقبل بصدق عناية ورعاية الماضي، فجاءت جمل ثلاث: 1- "ألم يجدك يتيما فآوى": وفي هذه الآية تذكير بالنعمة المعنوية، المتعلقة بإيواء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتيم الأبوين، وما يقتضيه ذلك من عطف ورحمة وشفقة، بثهما الله في قلب عبد المطلب، وقلب أبي طالب من بعده على الني صلى الله عليه وسلم، وما بث من حب له في قلب حليمة من قبل... 2- "ووجدك ضالا فهدى": وفي هذه الآية تذكير بالنعمة العقلية، والهداية من التيه الفكري الذي يتيهه أهل الجاهلية، والذي هدى الله نبيه صلى الله عليه وسلم منه إلى أقوم الطرق وأفضل الشرائع. 3- "ووجدك عائلا فأغنى": وفي هذه الآية المنة المادية المتعلقة بإخراجه صلى الله عليه وسلم من طور العيلة إلى طور الغنى. وفي الجمل الثالثة تأتي الصفة بصيغة الاسم الدالة على الثبات والدوام، "يتيما/ضالا/عائلا"، بينما أدويتها معبر عنها بالفعل الدال على التجدد والاستمرار "آوى/هدى/أغنى"، وتجدد النعم يغلب الاستمرار لا محالة فالصفة ثابتة لا تزداد، والعلاج متجدد لا يتوقف، وبالتالي سيغلب المتجدد الساكن، ويغرق الفضلُ العدلَ. ولما كان الفضل قد زاد على العدل، وكان الله قد أراد لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون من خير إلى خير ومن فضل إلى فضل، أرشده لأن يقابل النعم المتجددة الزائدة على ما تعالج بطاعات مناسبة لها، فجاءت في جمل ثلاث: 1- "فأما اليتيم فلا تقهر": وكأن القرآن يقول: بما أنك كنت ذات مرة يتيما، وقد أخرجك الله بفضله من مآسي وأحزان تلك المرحلة سليما معافا، غارقا في اللطف، فلا تقهر الأيتام، وارحمهم كما رحمك الله، فنفسية اليتيم ضعيفة منهارة، وبالتالي يحتاج حكمة وحنكة ورحمة. 2- "وأما السائل فلا تنهر": يرافق الضلال السؤال عن طريق الهدى، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حصل من الله على الهداية من الضلالة التي يتيه فيها الجاهليون العمي العمَّه، أمر أن يكرم السائل، وأن لا ينهره، سواء كان السائل سائل علم، مريد هداية وخير، أم كان ضالا ضلالا ماديا وسائلا حاجة دنيوية، ففي كلا الاحتمالين، لا ينبغي نهره، ولا القسوة عليه، خاصة من مَن رعته الأقدار، وأحاطته عنايتها. 3- ولما كان مقابل النعمة الشكر، أمر بالتحدث بالنعمة، والتحدث بالنعم شكر، والشكر هو صرف العبد ما أولاه الله من نعمة فيما يرضيه عنه، فهو في جانب المال، يشمل الصدقة والإنفاق، كما يشمل الاستعفاف والرضا والقناعة. وهذه الجمل الثلاث بدأت كلها بـ: "أما"، وهي للتقسيم، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: كيف أتعامل مع اليتيم والضال –السائل عن طريق الهدى-، وذي العيلة والفقر؟ وكأن الجواب: التعامل معها باختصار على أنماط: فأما اليتيم..... وإذا كانت تلك الأوامر الثلاثة (النهي عن قهر اليتيم، ونهر السائل، والتحدث بالنعم) مقابلات للنعم الماضية، وتبيين كيف تحمد تلك النعم، فإن الخاتمة عامة شاملة، تقتضي التحدث بالنعم الذي هو شكرها كما في الحديث، سواء كانت في الثلاث الخاتمة، أو فيما سواها من نعم وفضائل وفواضل...
|