التوبة/إعداد الدكتور أحمد مولود ولد محمدن، لولي |
الثلاثاء, 08 أبريل 2014 01:33 |
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على البعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزاجه أمهات المؤمنين وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير الذي يقول في محكم كتابه: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } آل عمران 135. والذي يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } التحريم8 . والذي يقول: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } الزمر الآيات من 53 إلى 55. والذي يقول: { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم }. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه الذي قال: "أيها الناس توبوا إلى الله واسغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة". والذي قال "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". والذي قال: "إن الله تعالى يبسط يدهبالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها". والذي قال: "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح". والذي أخبر عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" مائة مرة.
وبعد: فإن الله جل شأنه وتقدس اسمه جعل لكل داء دواء، وخلق لكل حال جلاء، وربط الأسباب بالمسببات طريقة سارية وسنة جارية، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. والمعاصي من أقوى أسباب الأدواء، وأخطر الأحوال المانعة من نفع الدواء، وارتكاب الآثام سبيل السقوط والإهانة، ومزلة للأقدام في الدنيا الفانية والأخرى الباقية، والطهور الذي به يمحى أثرها، والسر الذي به يهزم خطرها، هو الجنوح إلى خالص التوبة، والمبادرة إلى الله بالأوبة. فالتوبة حبل الله الموصول بعبده أبدا يذلل عناده ويقرب بعاده ويعيده إلى جادة رشاده، إنها الصلة بين العبد والهداية الواقية، والينبوع الفياض الذي عنه يصدر كل خير وسعادة في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية. والتوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، والإنسان بحكم ما رُكّب فيه من ميول وغرائز فإن نفسه الأمارة ميالة بطبعها لارتكاب السيآت، نازعة إلى الوقوع في الشهوات، فإذا لم يكبح جماحها بالتوبة فإنها أشرس من مفترس الحيوانات، وأقوى شهوة من فحول العجماوات. وليست التوبة في الحنيفية السمحة مسلكًا وعرًا، ولا طريقا صعبا لا يوصل إليه إلا بعد مشقة وتعب، وعناء ونصب، بل إنها سهلة ميسرة، في متناول الفرد والجماعة والعامة والخاصة، بابها مفتوح على مصراعيه يسع بفضل الله المذنبين التائبين، ويضيق بعدله عن الضالين المعاندين، نهر جار يغتسل فيه من أراد الله أن يتطهر ويطرقه من ألهمه الله أن يستغفر؛ قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم } [الزمر: 53]. إلهـي لست للفردوس أهــلاً ولا أقوى على نار الجحيم فهب لي توبةً واغفر ذنوبي فإنك غافـر الذنب العظيــم نسأل الله أن يرزقنا خلوص التوبة وصدق الإنابة، وأن تفتح لأدعيتنا أبواب الرحمة والإجابة، وأن يذيقنا برد عفوه وحلاوة مغفرته إنه بالإجابة جدير بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ونخن متناولون بإذن الله هذا الفيض الروحاني والعطاء الرباني، والمعين السلسال والبحر الزلال، في النقاط التالية :
أولا ـ تعريف التوبة: أ ـ التوبة في اللغة: التاء والواء والباء أصل يدل على الرجوع والإنابة، يقال تاب وأناب إذا رجع عن ذنبه، والتَّوْبُ والتَّوْبَةُ اسمان لمسمى واحد، والمراد بها في العرف الاستعمالي: ترك الذنب على أجمل وجه وهو أبلغ وجوه الاعتذار، وهي في عرف السالكين الرجوع إلى الله بالقيام بكل حقوق الرب من فعل المأمورات وترك المحظورات والتذلل في محراب الإنابة بالرغبة فيما عند الله والزهد فيما عند الناس. ب ـ التوبة في الاصطلاح الفقهي: ترك الذنب اسشعارا لقبحه وخوفا من عقاب الله والندم على المعصية من حيث هي معصية، والعزيمة على أن لا يعود إليها إذا قدر عليها، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة. وقد وردت التوبة في كتاب الله لمعاني ثلاثة هي : 1 ـ الندم: ومنه قوله تعالى:{ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 54]، وقوله تعالى :{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون } [النور: 31]. 2 - التجاوز: ومنه قوله تعالى: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } [التوبة: 117] أي تجاوز عنهم. 3 - الرجوع عن الشيء: ومنه قوله تعالى على لسان موسى عليه وعلى نبيا أفضل الصلاة والسلام: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، أي رجعت عن سؤالي الرؤية. ج ـ حقيقة التوبة : التوبة شعور وجداني بالندم على ما وقع فيه العبد من المحظور، وتوجه إلى الله لقبول الإنابة، وكف عن الذنب، وعمل صالح يصدق هذا الشعور ويقوى ذالك الكف، فهي فعل وجودي يتضمن إقبال التائب على ربه وإنابته إليه، والتزام طاعته الابتعاد عن معصيته. ومن أقلع عن الذنب من غير نية التقرب إلى الله لم يكن تائبًا، فإذا رجع إلى الله وأقبل عليه وأناب إليه وحل عقدة الإصرار على الذنب واشتشعر معنى التوبة في الجنان قبل نطقها باللسان، ودعا الله رغبًا ورهبًا أن يقبل توبته، ويتقبل أوبته، ويغسل حوبته، فقد حقق مدلول التوبة وحصل مقتضى الإنابة، ورجع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه. ثانيا ـ فضل التوبة إلى الله: إن الله تعالى أمر بالإنابة إليه والتوبة إليه ورغب فيها ووعد بقبولها فقال: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون } [النور: 31].وقال:{ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } [الزمر54] وقال: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [الشورى: 25]. وفتح لعباده أبواب الرجاء في عفوه ومغفرته، وأمرهم أن باللجوء إلى ساحات كرمه الفسيحات وأن يتعرضوا لنفحات جوده السانحات، طالبين تكفير السيئات وستر العورات، وقبول التوبات، لا يطردهم من رحمته الله طارد، ولا يذودهم عن بحر عفوه ذائد، حتى يأتي بعض آيات ربك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، قال جل من قائل: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّه } [آل عمران: 153]، وقال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم } [الزمر: 53]. والتائب من ذنبه الراغب إلى الله بالاستغفار محل لرعاية الله وأهلٌ لحفظه ومكان لتنزل رحمته، يغدق عليه من بركاته، ويفيض عليه من رحماته، ويبسط له في رزقة ويرغد له في عيشه، ويكثر له من نسله، قال تعالى حكاية عن نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. فبان أنه بسبب الاستغفار تننزل الرحمات، وتكثر الخيرات، ويغدق الله على عبادة المنيبين بالعطايا بالمال والبنين. ومع هذا النزل المعجل في هذه الدار فإنه يمنح المستغفرَ التائب الأجر ويمحو عنه الوزر ويضع عنه الإصر، ويهبه القوة والسداد ويوفقه للهدى والرشاد، وينعم عليه بالثواب العظيم والخير العميم والنعيم المقيم في دار التبجيل والتكريم والتنعيم؛ قال تعالى:{ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين } [آل عمران: 136] وقال تعالى: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } [مريم: 60، 61]. فالتوبة للإيمان بمثابة الترميم وللإسلام في محل التدعيم، والإيمان في أصله رحمة، الإسلام في مبدئه نعمة، والاستغفار في صفته بركة، وقد أخرج ابن ماجة من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب». ومراقبة الله في الخلوات واستشعار أنه يراك في جميع الحالات خوفا من عذابه وطمعا في ثوابه أساس الإيمان والعمود الذي يقوم عليه الإسلام، فإن وقع المرء في بعض ما نهي عنه بادر إلى التوبة واستصحب الندم ولازم الاستغفار، وأكثر من أعمال البر، إذ إتباع السيئة بالحسنة ـ بإذن الله ـ ماح، والله عفو غفور تواب، يقبل التوب ويغفر الذنب، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فضلاً منه وإحسانًا ورحمة وامتنانا. نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا التوبة النصوح، التي لا يشوبها تردد ولا يعتريها نقص و لا يعوقها تسويف إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثالثا ـ الأمور التي تجب منها التوبة : إنما أرسلت الرسل ونزّلت الكتب لإسعاد البشر وهدايتهم وإصلاح حالهم ومآلهم، والإسلام يعتمد في منهجه الإصلاحي على تهذيب النفس البشرية وربطها بخالقها، وغرس حب الخير والميل إلى عمل البر فيها، ومع ذلك فإن الإنسان تتنازعه مجموعة من الأعداء: نفس أمارة، وشيطان راصد، وهوى مزين، هذا مع ما رُكّب فيه من غرائز، وأودع فيه من ميول وشهوة تدفعه إلى الخطيئة دفعا، لهذا ربما وقع في الخطأ وانجر إلى الزلل بدواعي هذا الطبع وكيد أولئك الأعداء. ومرد الوقوع في هذه المحظورات إما إلى الجهل وطريق علاجه العلم، وإما إلى الضعف وغلبة الشهوة وقوة نوازع النفس، وطريق علاجه الصبر واحتساب الأجر عند الله وتعمير الفراغات بطاعته ولهج اللسان بذكره حتى يطمئن القلب وتزكو النفس. فالذنب لا يصدر إلا عن جهل بآثاره، أو ضعف وعجز عن كبح جماح شهوة النفس وكيد الشيطان، ولا شيء أنفع للنفس من التوبة إلى الله، والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام قال تعالى: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم } [آل عمران: 101]؛ والذنوب أجناس وأنواع تلزم التوبة منها عامة وإن اختلفت طرائقها وتطبيقاتها فمنها : 1 ـ الكفر: وهو أنواع وأخس أنواعه الشرك ثم النفاق وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وقد أخرج البيهقي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الكبائر أكبر قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك " وقال تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } . ومع هذا فباب التوبة من الكفر بأنواعه مفتوح وقد جعل الله بفضله الإسلام قاطعا ماحيا لما تقدمه، قال تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِين } [الأنفال: 38]. 2 ـ كبائر الذنوب : وأحط الكبائر درجة وأخسها مرتبة الموبقات السبع أعاذنا الله منها وقد نظمها بعضهم فقال : الموبقات التي عن مسلـم رويـت نعـوذ بالله هذا البيـت جامعهـا شرك وسحر وقذف والفرار ربا مال اليتيم وقتل النفس سابعها والتوبة منها واجبة على الفور كما تقدم، وهي إما أن يتعلق الحق فيها بالله أو بالعبد، فإن تعلق بالله كشرب الخمر والزنا بالطائعة الخلية من الزوج فالأفضل لصاحبها أن يستتر بستر الله ويكثر من الطاعات لتدارك ما فات؛ فإن تعلق الحق بالعبد طلبه الصفح وأدى له الحق، إلا إذا جر ذكر الجرم مفسدة عظيمة كالزنا بذات الزوج، فإنه يحسن إلى زوجها ويكثر له من الدعاء والاستغفار له والتصدق عنه. ويبادر إلى طلب الصفح والعفو ممن ظلمه خشية إن يموت فلا يلقى صاحب الحق إلا في المحشر فيصير مفلسا فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أتدرون ما المُفْلس » قالوا: المُفْلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: «إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم يطرح في النار». 3 ـ الفسوق: وكل أنواع الفسوق تجب التوبة منها سواءً كان فسوقًا في العمل بترك مأمور أو ارتكاب محظور، أو فسوقًا في الاعتقاد؛ كفسق أهل البدع والأهواء، وتوبة المبتدع وصاحب الهوى أن يعلم أن ما هو عليه بدعة فيعترف بها ويرجع عنها، ويعتقد ضد ما كان يعتقد منها. والتوبة من البدع أعسر إذ ربما لبس الشيطان على صاحب البدعة الحق بالضلال لذا كان من أدية الصلاة { إهدنا الصراط المستقيم } والله وحده يشرح صدر المخبت المنيب للحق، ويرشده لأحكام الشرع وقواعد الدين حتى يتبين له الحق فيستقيم عليه؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66: 68]. وترك السنن والتهاون بأداء النوافل وألوان التطوع ومحاسن الأخلاق التي حض الشرع عليها ورغب فيها ورتب عليها عظيم الثواب من غير الفروض الواجبة هذا الترك والتهاون تستحب منه التوبة إذا التهاون بهذه الرغائب نقص في الدين ولون من ألوان التقصير وقادح في الشهادة، وإكمال الدين مما أمر به الشرع ورغب فيه . ولا يظن العبد أنه لا تصح التوبة من العاجز عن فعل المعصية كالسارق يضعف عن السطو والشيخ الهرم يتوب من الزنا والفقير يتوب من شرب الخمر، بل إن الله بفضله ومنه وكرمه يعامل على النية، فيثيب على العزم على الطاعة ولا يأخذ بالعزم على المعصية ما لم يفعل، وتكون التوبة من نية الإقدام على المعصية لو قدر، ومن حديث النفس بها، وإغراء الشيطان بها.
رابعا ـ وجوب التوبة على الفور: عامة الناس محتاج إلى تجديد التوبة لكثرة ما يعتري الإنسان من النقص والتقصير والاشتغال والرغبة في هذه الدنيا الفانية والالتفات والرغبة عن الدار الباقية { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } فلزم الاشتغال بها في كل حين وعلى كل حال. وقد دّلت نصوص الوحي أن المبادرة بالتوبة من كل ذنب فرضٌ على الفور، لا يجوز تأخيرها، إذ لا ميعاد مع الموت حين لا تقبل التوبة ولا تنفع الأوبة، حين يظهر الاضطرار ويزول الاختيار، وقد قال تعالى قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء: 17، 18]. فقبول التوبة حقٌ على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، قبل أن تنقطع الآمال وتحضر الآجال، وتساق الأرواح سوقًا، ويفوت التدارك فوتا، ويغلب المرء على نفسه؛ ويستقر في مثواه ومحبسه، فنحن في دار امتحان فإذا انكشف الغطاء وزال الخفاء وظهر الجلاء ووقع العيان تصرم وقت الامتحان، فتعجيل التوبة أمر لا يقبل التأخير إذ ربما ران الذنب على الذنب حتى يصير القلب كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ به من سيء العاقبة وسوء الخاتمة. من هنا كان تأخير التوبة ذنبا تجب التوبة منه فالمسلم إذا وقع في المعصية طرقت التوبة باب قلبه ظروقا فإذا بادر إليها وقارع برحمة الله عداوة الشيطان انتكس شيطانه وخزي، وإذا تمادى في الإصرار ومال إلى التسويف غلبه الشيطان على أمره وأورده المهالك واستعبده في طاعته، حتى تنقضي أيامه وتتصرم لياليه، وتنقطع أنفاسه، ويظهر ارتكاسه، وقد أخرج الترمذي من أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « بَادِرُوا بِالأعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلا فَقْراً مُنْسِياً، أَوْ غِنَىً مُطْغِياً، أَوْ مَرَضَاً مُفْسداً، أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتَاً مُجْهِزاً، أَوْ الدَّجّالَ ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أدْهَى وَأمَرُّ» وغير خفي أن التوبة أولى الأعمال الصالحة بالمبادرة لما يترتب عليها من قبول الحسنات ومحو السيآت. خامسا ـ أركان التوبة وشروطها : إن لكل عمل شروطا لا يتصور ولوج ماهيته دونها وأركانا لا تقوم دعائمه إلا عليها وللتوبة شروطها وأركانها التي لا وجود لماهيتها دونها من هذه الشروط والأركان: 1 ـ أن تكون خالصة لله تبارك وتعالى فالله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا له وحده مبتغىً به وجهه دون إشراك لغيره في أصل القصد وعين الفعل، قال تعالى { ألا لله الدين الخالص } وقال جل من قائل: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } وأخرج مسلم والبيهقي في الشعب من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، يَقُولُ قال الله تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فمَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ معي غَيْرِي تركته وشركه" 2 ـ أن تكون على وجه موافق للسنة إذ كل أمر لا يوافق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو رد على صاحبه غير صواب في ذاته قال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال جل من قائل: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر } وأخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". وربما كان العمل صوابًا غير خالص أو خالصا غير صواب وكان عمر رضي الله عنه يدعوا فيقول: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا». وخلوص التوبة أن يكون الباعث للتوبة حُبُّ الله وتعظيمه ورجاؤه والإنابة إليه، والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا رياء وتزلفا طمعا في رغيبة دنيوية أو وظيفة دينية. 2 ـ الإقلاع عما تاب عنه: فالنفس المشغولة بلذة المعصية لا تُخْلص النية ولا تتصور التوبة من مصر إذ هي إنابة ورجوع وترك وندم؛ فإن كان ما تاب منه حقا لله وكانت المعصية فعلا محرما أقلع عنه في الحال وتركه بنية ألا يعود، وإن كانت بترك واجب بادر إلى فعله في الحال إن صح تداركه أداء أو قضاء، وإن كان من حقوق االمخلوقين تخلص منه بالأداء والاستحلال.. 3 ـ الندم على ما فعل من المعصية، ولا يتصور الندم مع العزم على العود في المستقبل، ولا تكون التوبة صحيحة يرجى قبولها ما لم يصاحبها الندم والحزن والانكسار والتذلل والخضوع وطلب التجاوز، ومن هنا كان الإخبار بالمعصية التي ستر الله من الكبائر لما فيه من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين ولما فيه من المجاهرة بالذنب وقد أخرجا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنَ الإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ فِي اللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ فَيَقُولُ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ يَبِيتُ فِي سِتْرِ رَبِّهِ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ». وإذا وقع هذا الندم والانكسار والعزم الجازم على عدم العود ثم وقع العبد في الذنب فبادر التوبة وحصل له من الانكسار والندم مثل ما تقدم أو أشد فإن ذلك لا يمنع قبول التوبة وقد أخرجا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقدغفرت لك» أي ما دمت تذنب ثم تتوب. 4 ـ عدم الإصرار على المعصية : والإصرار: عقد القلب على شهوة الذنب، واستقراره على المخالفة، وعزمه على المعاودة؛ والتوبة مع الإصرار توبة الكذابين الذين يهجرون الذنوب هجرًا مؤقتًا، يتحينون الفرص المواتية للمعاودة والكرة بعد الكرة، وشرط قبول التوبة وحصول المغفرة عدم الإصرار على المعصية، قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [آل عمران: 135، 136]. ثم من علامات قبول التوبة الإكثار من الطاعات بعدها، وتغير حال التائب من سيئ إلى حسن، واستشعار أنك أذنبت، وأن الحسنة تمحو السيئة، فيعوض التائب ما صرفه من عمره في اللهو والمعصية بالعمل الصالح وفعل الطاعات؛ ليمحو بذلك أثر الخطيئة وشؤم السيئة، فإذا تاب وأقلع عن الذنب فينبغي أن يصدق توبته تعويض ما فاته من الأعمال الصالحة قدر المستطاع. 5 ـ أن تصدر في زمن قبولها: وميقات التوبة الزماني ما قبل الغرغرة، وطلوع الشمس من مغربها، فإذا وقع الإياس من الحياة وبلغت الروح الحلقوم، وضاق بها الصدر، وعاين المرء الموت فلا توبة، أخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . وإذا كان وقت الاختيار وزمن الامتحان يتصرم وينقضي بالغرغرة فإنه كذلك يتصرم وينقضي بظهور بعض الآيات الكونية العظيمة المنبئة بدنو زوال الدنيا والمعلنة بقيام الساعة يقينا، وقد أخرج ابن ماجه من حديث صفوان بن عَسَّال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من قبل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا، عرضه سبعون سنة؛ فلا يزال ذلك الباب مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه، لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا».
سادسا ـ علامات قبول التوبة : للتوبة علامات يعرف بها صدق التائب فإذا عرف صدق التائب رجي لها القبول من هذه العلامات: 1 – إتباع السيئة الحسنة بالإكثار من الطاعات والابتعاد عن المنكرات حتى كأن التائب يسابق الزمن لإكمال الناقص وتعويض الفائت وتلافي ما أمكن تداركه من فائت أعمال البر، قال تعالى { إن الحسنات يذهبن السيآت ذلك ذكرى للذاكرين } وأخرج أحمد في مسنده من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اتق الله حيثما كنت وأتبع الحسنة السيئة تمحها وخالق الناس بخلق حسن". 2 – تصديق العزم على عدم العود بالفعل تحصيلا وكفا والاجتهاد لإصلاح ما يأتي من الأعمال بعدها، فإن كان الماضي تفريطًا في عبادة قضاها، أو مظلمة أدَّاها، أو خطيئة لا توجب غرامة ولا كفارة حزن على فعلها والإقدام عليها. 3 - أن يستشعر خطر الذنب وعظم الخطيئة وتضيق الأرض عليه بما رحبت ويستولي عليه الحزن والانكسار والشعور بالندامة وفي قصر الثلاثة الذين خلفوا مثال على حال التائب وما يصل إليه من الشعور بالندم. 4 - أن يكون بعد التوبة أقرب إلى الله منه قبلها؛ فمن علامات قبول العمل صلاح الحال بعده والتوبة عمل بر من أفضل الأعمال وأولاها بالمسارعة فيصلح حاله ولا يأمن مكر الله قال تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } [المعارج: 27 - 28]؛ فيصحبه الخوف طيلة حياته، ويستمر على ذلك حتى يبلغ وقت تغليب الرجاء عند حضور ما ليس منه بد. سابعا ـ الصوارف عن التوبة: طبيعة الإيمان قاضية بالمبادرة إلى التوبة حال وقوع المؤمن في المعصية إلا أن العوارض قد تعرض له فيؤخر التوبة من الذنب من هذه الصوارف العوارض: 1 ـ اعتماد المذنب على واسع رحمة الله وكرمه وعفوه فإنما يصرف على هذا العارض بتذكر شدة عقاب الله وأنه لا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين، وأن أمن مكره من أسباب الهلاك، وإن الاعتماد على العفو مع الإصرار على الذنب من قبيل العناد والمكابرة وأمن مكر الله. 2 ـ قوة الشهوة ما ينتج عنه النزوع عن الآجل إلى العاجل وعن الباقي الدائم إلى الفاني الزائل، وإنما يصرف هذا العارض بتوظيف العقل والاستعانة بالدعاء ومصاحبة أهل الخير. 3 ـ التسويف والاغترار بطول الأمل وإنما يصرف هذا العارض بادكار الموت والاستعجال خشية الفوت، وتدبر أحوال الظالمين، وعاقبة المجرمين، والاتعاظ بسير الصالحين، والنظر في مواقف التائبين. 4 ـ الغفلة والجهل، وإنما يغلبان بتعلم العلم الشرعي ومصاحبة كتاب الله ودراسة السنة المطهرة ومطالعة كتب المواعظ والاستماع إلى أشرطة الإرشاد وحضور مجالس الذكر والليالي التربوية والمحاضرات والدروس العلمية. 5 ـ استصغار الذنب وهو من أخطر هذه العوارض وأشدها ضررا، كيف لا وقد قيل لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وإنما يصرف هذا العارض باستشعار قدرة الله وأنه يعفوا ما شاء ويأخذ بما شاء وأن استصغار الذنب في نفسه كبيرة من عظائم الذنوب.
ثامنا ـ عودة التائب إلى ارتكاب الذنب الذي تاب منه: للتائب أحوال إذ قد يستمر على توبته وقد يعود إلى ارتكاب الذنب مرة أو مرات، وصورة ذلك أنه: 1 – إذا استمر على توبته الصحيحة من غير نكوص كانت توبة مقبولة بلا خلاف إن شاء الله. 2 – إذا تاب ثم عاد ثم تاب ولو تكرر ذلك وكانت كلُّ توبة مستوفية للشروط، فإن كل توبة صحيحة بإذن الله. 3 – إذا تاب من الذنب ثم عاد إليه ولم يتب حتى مات فهل يؤخذ بالثاني دون الأول أو يؤخذ بهما؟ ـ قيل: يؤخذ بالأول والثاني، لأن معاودته الذنب مرة أخرى ناقضة للتوبة الأولى لأن التوبة مشروطة بالموافاة عليها، ولهذا المعنى يرشد قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون } [البقرة: 217]. ـ وقيل: لا يؤخذ إلا بالثاني، وأما الأول فقد صار بمنزلة ما لم يعمل للتوبة المتقدمة، ولهذا المعنى يدل ما أخرجاه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أنه له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك» وهذا القول موافق لسماحة الإسلام، وهو أصح القولين وفيه من الترغيب في التوبة ما لا يخفى.
|