كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول
كلمات وجيزة عبر بها الشاعر عن حقيقة دور المرأة قبل الإسلام، وحتى بعده حينما ينعدم حمل الرسالة، فجر الذيل كناية عن الفراغ والانشغال بالمظاهر وهي عبارة تجر ذيلها على كل صنوف الترف واللامبالاة والانشغال بالتافه، هكذا كانت المرأة قبل الإسلام، فكيف غير الإسلام تفكير المرأة وقدرتها على البذل والعطاء وحتى نمط اهتماماتها؟
يتضح لنا ذلك جليا حينما نقرأ سير الصالحات من هذه الأمة فالنموذج الحي أبلغ من مجرد الكلام، وحينما نقرأ عن تلك النماذج الفريدة يحق لنا أن نردد مع الآخر قوله:
ولو كان النساء كمن ذكرنا *** لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث في اسم الشمس عيب *** ولا التذكير فخر للهلال
وقد اخترنا من بين تلك النماذج نموذجا فريدا فاقت شجاعة وبذله كلما يدعيه الرجال، تلك هي أم عمارة نسيبة بنت كعب، وسنتناول مواقف من سيرتها رضي الله عنها عبر المحاور التالية: أولا: اسمها ونسبها: هي نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم من بني مازن بن النجار الأنصارية النجارية، تكنى أم عمارة ثانيا: إسلامها: أسلمت في أول من أسلم من الأنصار فقد شهدت بيعة العقبة الأولى هي وأم سبيع من النساء وبايعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه الرجال ثالثا: جهادها رضي الله عنها: كانت رضي الله عنها مجاهدة في سبيل الله لم تمنعها أنوثتها ولا انشغالها بأعباء البيت وتربية الأولاد من الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوات فقد شهدت بيعة العقبة وأحدا والحديبية وخيبر والفتح وحنينا ثم شهدت قتال مسيلمة باليمامة وقد أبلت في ذلك كله بلاء حسنا عجز عنه الكثير من الرجال فقد قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان" وقال فيها أيضا: "ما التفت يوم أحد يمينا ولا شمالا إلا وأراها تقاتل دوني"، ومن مواقفها الجهادية الباسلة: أ ـ قتالها يوم أحد:
شهدت أحدا ـ كما أسلفنا ـ مع زوجها وابنيها ـ روت أم سعيد بنت سعد بن الربيع قالت دخلت عليها فقلت لها حدثيني خبرك يوم أحد فقالت: خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح، قالت أم سعيد فرأيت على عاتقها جرحا له غور أجوف فقلت لها: يا أم عمارة من أصابك بهذا؟ قالت أقبل ابن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح دلوني على محمد فلا ننجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ولقد ضربته ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان. وقد استغرق علاج ذلك الجرح سنة.
ثم قالت وأقبل رجل على فرس فضربني وتترست له فلم يصنع سيفه شيئا وولى فضربت عرقوب فرسه فوقع على ظهره فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح بابن أم عمارة "أمك أمك " فعاونني عليه حتى قتلته.
أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن عمرو بن يحيى عن أمه عن عبد الله بن زيد قال جرحت يومئذ جرحا في عضدي اليسرى ضربني رجل كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني وجعل الدم لا يرقأ فقال رسول الله اعصب جرحك فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح فربطت جرحي والنبي واقف ينظر إلي ثم قالت: انهض بني فضارب القوم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة" قالت وأقبل الرجل الذي ضرب ابني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا ضارب ابنك" قالت فأعترض له فأضرب ساقه فبرك قالت فرأيت رسول الله يتبسم حتى رأيت نواجذه وقال: "استقدت يا أم عمارة" ثم أقبلنا نعله بالسلاح حتى أتينا على نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك وأراك ثأرك بعينك".
أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن الحارث بن عبد الله قال سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم يقول شهدت أحدا مع رسول الله فلما تفرق الناس عنه دنوت منه أنا وأمي نذب عنه فقال: "ابن أم عمارة؟" قلت: نعم قال: ارم فرميت بين يديه رجلا من المشركين بحجر وهو على فرس فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقرا والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر يتبسم ونظر جرح أمي على عاتقها فقال: <<أمك أمك اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل البيت مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت، ومقام ربيبك ـ يعني زوج أمه ـ خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت"، قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة فقال: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة" فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم تقول ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد ما وصل إلى بيته حتى أرسل إلى عبد الله أخي نسيبة يسأل عن حالها فلما أخبر بسلامتها سر بذلك، صلى الله عليه وسلم
ب ـ قتالها يوم حنين: تقول رضي الله عنها: لما كان يوم حنين والناس منهزمون في كل وجه وأنا وأربع نسوة، في يدي سيف صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها، وأم سليط وأم الحارث، ثم نظرت فرأيت رجلا من هوازن على جمل أورق معه لواء يضع جمله وسط المسلمين فاعترضت له فضربت عرقوب الجمل عندها سقط الرجل فتقدمت إليه ولم أزل أضربه بسيفي حتى أثبته وتركت الجمل يخرخر وهو ينقلب ظهرا لبطن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مصلت السيف وهو ينادي: يا أصحاب سورة البقرة ويا أصحاب بيعة الرضوان هلموا إلي عندها رجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان النصر جـ ـ موقفها في اليمامة: عن أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت: رأيت نسيبة بنت كعب ويدها مقطوعة فقلت لها: متى قطعت يدك؟ قالت: يوم اليمامة كنت مع الأنصار فانتهينا إلى حديقة فاقتتلوا عليها ساعة حتى قال أبو دجانة الأنصاري واسمه: سماك ابن خراشة: احملوني على الترسة حتى تطرحوني عليهم فأشغلهم فحملوه على الترسة وألقوه فيهم فقاتلهم حتى قتلوه رحمه الله قالت: فدخلت وأنا أريد عدو الله مسيلمة الكذاب فعرض لي رجل منهم فضربني فقطع يدي فو الله ما عرجت عليها ولم أزل حتى وقعت على الخبيث مقتولا وابني يمسح سيفه بثيابه فقلت له: أقتلته يا بني؟ قال: نعم يا أماه فسجدت لله شكرا قالت: وابنها هو: عبد الله بن زيد بن عاصم، وكان مسيلمة لعنه الله قد قتل ابنها حبيبا شقيق عبد الله عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليه في قصة شهيرة وعندما بلغها قتله رضي الله عنه قالت: "لمثل هذا أعددته وعند الله احتسبته". رابعا: الدروس المستخلصة: من قرأ سيرة نسيبة رضي الله عنها وجدها امرأة من طراز خاص ليست ككل النساء فقد تميزت بخصال من أهمها:
أ ـ محبة النبي صلى الله عليه وسلم والحرص على الخير:
وقد رسمت نسيبة رضي الله عنها أروع صور البذل والفداء مع زوجها وفلذات كبدها دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد وفي حنين حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها: "ما التفت يوم أحد يمينا ولا شمالا إلا وأراها تقاتل دوني"، ومن شواهد محبتها له صلى الله عليه وسلم أنها لم ترض باستئثار الرجال بالخروج معه فقد كانت حريصة على مرافقته صلى الله عليه وسلم حيث رافقته في أغلب مغازيه صلى الله عليه وسلم وحرصت على أن يدعو الله لها بمرافقته في الجنة، وأي شرف وأي مقام فوق هذا فقد حق لها أن تقول بعد ذلك: "ما أبالي ما أصابني من الدنيا".
ب ـ الشجاعة:
وكانت السمة الأبرز في شخصية نسيبة رضي الله عنها فقد كانت تعجب من انكشاف الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد وحنين وتجد في ذلك فرصتها الذهبية في التضحية والجهاد فقد كانت لا تهاب الموت بل تقدم نفسها رخيصة في سبيل الله، وتهون عندها الأعضاء، فهاهي تقول: .. فعرض لي رجل منهم فضربني فقطع يدي فو الله ما عرجت عليها، ولا تقيم وزنا لآلام البدن: فلم يمنعنا جرحها الأجوف من مواصلة القتال.
جـ ـ الصبر:
وقد كانت رضي الله عنها مثالا يحتذى في الصبر ولا غرابة فهو قرين الشجاعة فلا شجاعة بدون صبر، وقد صبرت رضي الله عنها إلى جانب صبرها في القتال والمنازلة على أصعب من ذلك بالنسبة للمرأة ألا وهو فراق الولد فقد صبرت عندما قتل مسيلمة ابنها حبيبا قتلة فظيعة وقالت: "لمثل هذا أعددته وعند الله احتسبته". وختامًا:
حينما نتصفح هذه السيرة العطرة يتأكد لدينا بما لا يدع مجالا للشك صدق ما قررنا في المقدمة من كون النموذج الحي أبلغ تأثيرا من مجرد الكلام عن القيم المجردة، فمن يصدق أن امرأة تقارع الأبطال بالسيوف فتردي هذا وتدع ذاك مثخنا بالجراح؟؟ ومن يصدق أن امرأة تثبت حين يفزع الرجال ويولون الدبر؟؟ ومن يصدق أن امرأة تقدم أبناءها للموت وهي تنظر؟؟ ومن يصدق ... ومن يصدق...
كانت تلك مجرد أمثلة من مواقف المجاهدة الصابرة أم عمارة، استخلصنا منها بعضا من الدروس والعبر وما نفدت والله الدروس ولا العبر، فهل من مدكر؟؟
البشير الدعوي
|