في ذكرى وفاته.. عبدالباسط عبدالصمد.. إمام القراء/محمد عبدالعزيز |
الأربعاء, 04 ديسمبر 2013 12:03 |
بعد 25 عاما على رحيله، يظل يوم الأربعاء 30/11/1988م ، محفورًا في وجدان كل من لانت قلوبهم إلى ذكر الله بصوته، وكل من دمعت أعينهم بعذب تلاوته وفرادة تجويده، ذلك اليوم الذي توقف عنده وجود الشيخ عبدالباسط عبدالصمد بين أحياء الدنيا، ليفتح الله به حياة خالدة مع أحياء الآخرة، يرتل لهم القرآن الكريم كما كان يرتل في الدنيا. ذلك اليوم الذي لا يضاهيه إلا يوم وفاة الإمام محمد متولي الشعراوي، فقد أحدث رحيله صدمة وقعت بقلوب ملايين المسلمين في كل أرجاء الدنيا، شيّعه عشرات الآلاف من المحبين لصوته وأدائه وشخصه على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، فكانت جنازته عالما إسلاميا مجتمعا على اتساع رقعته، متحدا على اختلاف سياساته. على بُعد 650 كيلو مترا جنوب العاصمة المصرية، ولد "عبدالباسط محمد عبدالصمد" في بيئة قاسية، تتصاعد فيها درجات الحرارة، وتقل فيها فرص الحياة والتعليم، بقرية "المراعزة" التابعة لمدينة "أرمنت" بمحافظة "قنا" بصعيد مصر عام 1927م.. غير أن البيئة القاسية التي أرادتها الأقدار للطفل "عبدالباسط" لم تكن لتثنيه عن الطريق الذي أراده الله له، فقد نشأ في أسرة وهبت نفسها لحمل كتاب الله والعمل به، الجد والأب والأشقاء جميعهم من المجودين المجيدين للقرآن الكريم.. جملة من المواهب التحق الطفل الموهوب بكتّاب الشيخ "الأمير" بـ"أرمنت"، فاستقبله شيخه أحسن ما يكون الاستقبال، إذ توسم فيه جملة من المواهب والنبوغ تتمثل في سرعة استيعابه لما أخذه من القرآن، وشدة انتباهه، وحرصه على متابعة شيخه بشغف وحب، فضلا عن دقة التحكم في مخارج الألفاظ والوقف والابتداء، وعذوبة في الصوت تشنف الآذان بالسماع والاستماع، فلم يكن غريبا أن يحفظ القرآن كاملا قبل أن يتم العاشرة من عمره. كان القرآن يتدفق على لسانه كالنهر الجاري، لكنه لم يكتف بحفظه، بل أراد أن يتعلم "القراءات"، فأكد الأب استعداده لتحمل نفقات سفره إلى مدينة "طنطا" شمال القاهرة، التي تبعد عن قريته بأكثر من 800 كيلو مترا، كي يتلقى علوم القرآن والقراءات على يد الشيخ "محمد سليم" أحد أمهر شيوخ "القراءات" في تلك الفترة، كانت المسافة بعيدة جداً، لكن ذلك لم يكن ليثنه عن صياغة مستقبله، ورسم معالمه، فتأهب للسفر، لكن الأقدار لطفت به، فقد جاء الشيخ "محمد سليم" إلى "أرمنت" مدرساً للقراءات بمعهدها الديني، وكأن القدر ساق إليه هذا الرجل في الوقت المناسب.. فذهب إليه وراجع عليه القرآن كله، ثم حفظ "الشاطبية" المتن الخاص بعلم القراءات السبع. لم يتم "عبدالباسط" الثانية عشرة من عمره إلا وقد حقق شهرة كبيرة في بلدته والقرى المجاورة لها، وراحت الدعوات تنهال عليه لتلاوة القرآن الكريم وتجويده، فاستحوذ على قلوب كل من استمع إليه. مرحلة جديدةبلغ "عبدالباسط" مرحلة الشباب، قرر أن ينطلق أكثر إلى محراب القرآن، فغادر بلدته إلى القاهرة، قاصدا التزود بالعلم من شيوخها، وفي أحد أيام عام 1950، ذهب لزيارة مسجد السيدة زينب في ذكرى مولدها، الذي يشهد احتفالا يحييه عمالقة القراء المشاهير، منهم في تلك الفترة الشيخ عبدالفتاح الشعشاعي، الشيخ مصطفى إسماعيل، الشيخ عبدالعظيم زاهر، والشيخ أبوالعينين شعيشع، وغيرهم من كوكبة القراء. انتصف الليل والمسجد الزينبي يموج بأفواج من المحبين لآل البيت، استأذن أحد أقارب الشيخ عبدالباسط القائمين على الحفل أن يقدم لهم هذا الشاب الموهوب ليقرأ عشر دقائق، فأذن له، وبدأ في التلاوة من سورة الأحزاب وسط جموع غفيرة.. عم الصمت أرجاء المسجد، واتجهت الأنظار إلى القارئ الصغير، الذي تجرأ وجلس مكان كبار القراء.. لكن ما هي إلا لحظات وانتقل السكون إلى ضجيج وصيحات رجت المسجد "الله أكبر".. وبدلاً من القراءة عشر دقائق امتدت إلى أكثر من ساعة ونصف، خيل للحاضرين خلالها أن أعمدة المسجد وجدرانه تهتز وتسبح بحمد ربها مع كل آية تتلى. كانت تلك الليلة بمثابة مرحلة جديدة في حياة الشيخ، حاز خلالها إجازة ضمنية من عمالقة القراء، ومهدت له التقدم إلى الإذاعة المصرية كقارئ بها، استمعت لجنة الإجازة بالإذاعة إلى تلاوة الشيخ "عبدالباسط" فانبهر الجميع بأدائه القوي، العالي، الرفيع، المحكم، المتمكن، وتم اعتماد الشيخ بالإذاعة عام 1951 ليكون أحد النجوم اللامعة والكواكب النيرة المضيئة بقوة في سماء التلاوة. ساهمت الإذاعة المصرية بالوصول بصوت الشيخ إلى كل أرجاء الدنيا، فأسر صوته القلوب، واهتدت به كثير من النفوس الحائرة، انهالت عليه الدعوات من شتى بقاع الدنيا في شهر رمضان وغير شهر رمضان.. كانت بعض الدعوات توجه إليه ليس للاحتفال بمناسبة معينة، إنما للحضور إلى الدولة التي أرسلت إليه لإقامة حفل بغير مناسبة، فحضوره في حد ذاته مناسبة. غير أن أول زيارة للشيخ عبدالباسط خارج مصر كانت إلى المملكة العربية السعودية، لأداء فريضة الحج.. واعتبر السعوديون هذه الزيارة مهيأة من قبل الله، فهي فرصة يجب أن تجنى منها الثمار، فطلبوا إليه أن يسجل عدة تسجيلات للمملكة لتذاع عبر موجات الإذاعة.. فقام بتسجيل عدة تلاوات أشهرها التي سجلت بالحرم المكي والمسجد النبوي الشريف، ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي زار فيها السعودية، إنما تعددت زياراته بعد ذلك ما بين دعوات رسمية وبعثات وزيارات لحج بيت الله الحرام. سفير القرآن كان "عبدالباسط" ـ ولازال ـ سفير أمين للقرآن الكريم، يضفي جواً من الخشوع والفرحة على المكان الذي يحل به.. فاستقبلته شعوب العالم وحكوماته استقبالاً رسمياً على المستوى القيادي والحكومي والشعبي.. حدث ذلك في باكستان، إندونيسيا، الهند، جنوب أفريقيا، وفي جزر المالديف، قرأ القرآن الكريم بأكبر المساجد، امتلأت الميادين بملايين المستمعين، تفيض أعينهم من الدمع يبكون. ولم يقتصر الشيخ في سفره على الدول العربية والإسلامية فقط، إنما جاب العالم شرقاً وغرباً.. شمالاً وجنوباً، وصولاً إلى المسلمين في أي مكان من أرض الله الواسعة.. ومن أشهر المساجد التي قرأ بها القرآن هي المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة بالسعودية والمسجد الأقصى بالقدس، وكذلك المسجد الإبراهيمي بالخليل بفلسطين، والمسجد الأموي بدمشق، فضلا عن أشهر المساجد بآسيا وإفريقيا والولايات المتحدة وفرنسا ولندن والهند ومعظم دول العالم. وكان ـ رحمه الله ـ يعتز بتلاوته للقرآن من مكان المعراج بالمسجد الأقصى. وكان الملك محمد الخامس ـ رحمه الله ـ من أشد المعجبين بتلاوته، لدرجة أن الملك تمنى أن يكون الشيخ عبدالباسط مغربيا ،وعرض عليه الإقامة الدائمة في المغرب، إلا أن الشيخ اعتذر بلطف، مؤكدا أنه خادم للقرآن في أي مكان على وجه الأرض. أوسمة متعددة حاز الشيخ عبدالباسط العديد من الأوسمة الرفيعة، والنياشين التي لا تمنح عادة إلا لرؤساء الدول، ويمكن اعتباره القارئ الوحيد الذي نال من التكريم لم يحظ به غيره حيا أو ميتا، كيف لا وقد تربع على عرش تلاوة القرآن الكريم ما يقرب من نصف قرن من الزمان، نال خلالها قدر من الحب جعله أسطورة لا تتأثر بمرور السنين، بل كلما مر عليها الزمان زادت قيمتها وارتفع قدرها كالجواهر النفيسة، فكرمته سوريا عام 1956 بمنحه وسام الاستحقاق، وحاز من لبنان وسام الأرز، والوسام الذهبي من ماليزيا، وكذلك من السنغال والمغرب، وآخر الأوسمة التي حصل عليها كان بعد رحيله، من الرئيس المصري محمد حسن مبارك في الاحتفال بليلة القدر عام 1990م. ولم يزل الشيخ مجاهدا بالقرآن، حتى داهمه المرض منتصف الثمانينيات، إذ تمكن مرض السكر منه، فكان يحاول مقاومته بالحرص الشديد والالتزام في تناول الطعام والمشروبات، لكن تضامن الكسل الكبدي مع السكر فلم يستطع أن يقاوم المرضين الخطيرين فأصيب بالتهاب كبدي قبل رحيله بأقل من شهر، ثم سافر إلى الخارج ليعالج بلندن حيث مكث بها أسبوعاً، غير أنه فضل العودة إلى مصر حينما أحس بأن اللقاء قد اقترب. راضيا بقضاء الله وقدره، الذي منِّ عليه بالقرآن، وبه استمال القلوب وقد شغفها طربا، وغمر القلوب حباً وسحبهم إلى الشجن، فحنت إلى الخير والإيمان، وكان سبباً في هداية كثير من القلوب القاسية، وكم اهتدى بتلاوته كثير من الحائرين، فبلغ الرسالة القرآنية بصوته العذب الجميل كما أمره ربه، فاستجاب وأطاع كالملائكة يفعلون ما يؤمرون، قبل أن يدانيه الأجل ليل الأربعاء 30/11/1988. إمام القراء رحل الشيخ جسدا، لكنه لم يزال باقيا في وجدان الملايين الذين يحرصون على سماعه صباح مساء، مجمعين على أن الشيخ هو إمام القراء بلا منازع.. الذي حظي باحترام العالم أجمع. رحم الله إمام القراء ورائد المدرسة الفريدة في عالم التلاوة والتجويد، وأول نقيب لمحفظي القرآن الكريم في مصر.
|