محمد قطب الشهيد المعمَّر!!!/إبراهيم الدويري
الأربعاء, 09 أبريل 2014 13:34

إبراهيم الدويريإبراهيم الدويريكما كان آل ياسر آية الصدر الأول في الصبر  وعزة النفس وإيثار ما عند الله سبحانه وتعالى؛ فإن آل قطب كانوا معجزة آخر الزمان؛ في فداء الحق، والصبر على طريقه، وتحدي الطغيان المادي في أيام الوهن والانكسارات والتملق، فقد هدى الله "سيدهم" للحق من حيث لا يحتسب خصومه؛ فقد كان قبل أن يكون من "الإخوان المسلمين" مزعجا للطغاة لما فطره الله عليه من حب الخير، وقول الحق، وعزة النفس، فأرسلوه في بعثة إلى أمريكا؛ ظاهرها طلب العلم والاطلاع على المناهج الغربية، وباطنها تيسير سبل فساد أخلاق أديب في عنفوان شبابه.

 

وقد ظن مرسلوه بأن الرجل سينغمس في ملذات الحياة، ومفاتن الدنيا، وزينة أمريكا، وأن إزعاجه لهم سينتهي للأبد؛ لكن الله أراد أمرا آخر؛ فساق سيدا إلى الغرب ليعرف قيمة الدعوة ورجالها الذين تركهم في بلاده ينشرون الهدى ويدعون للتقوى؛ فقد لاحظ قوما مخمورين في حانة يحتفلون بمقتل رجل في الشرق اسمه حسن البنا؛ فتحركت في الرجل النخوة، وأكبر هذه الدعوة ومؤسسها الذي يحتفل أعداء الإسلام والشرق لموته، فعاد إلى مصر رجل آخر كما أراد خصومه لكنه عليهم وليس لهم؛ كما يقول محمد قطب في حديثه للباحث كمال حبيب "عام 1949 شاهد وهو في أمريكا حفلة ماجنة مخمورة احتفالاً بمقتل حسن البنا فقرر أن يكون عضوًا بهذه الجماعة التي يحتفل الأمريكان لمقتل زعيمها، وقال: لا بد وأن أكون جنديّا فيها".

المنشأ الأول:

تلك المقدمة لا بد منها لفهم الجو الذي ترعرع فيه الشهيد المعمر محمد قطب الذي ولد 26/4/1919م في بلدة موشا من محافظة أسيوط بمصر، وكان أبوه قطب إبراهيم من المزارعين بتلك المنطقة، ولم يكن من المتعلمين؛ حيث لم يتجاوز المرحلة الابتدائية لكنه كان محبا للمطالعة ومهتما بالشأن العام مما جعله من وجهاء القرية وشخصياتها المهمة، أما أمه في فهي فاطمة عثمان تنتمي لأسرة عربية مهتمة بالعلم، فقد درس إخوتها في الأزهر، واشتهر منهم أحمد حسين موشي، فقد كان شاعرا وأديبا نال شهرة صحفية، وقد أحسن سيد قطب في نقل مشاهد من تلك القرية التي ولد بها الراحل في سيرته الذاتية "طفل من القرية"،  وقد أنهى الأستاذ محمد قطب دراسته في القاهرة بجميع مراحلها،حيث درس فيها المرحلة الابتدائية والثانوية، وتخرج من جامعة القاهرة التي أخذ منها الإجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها عام 1940. وكانت هذه مرحلة هادئة من حياة الأستاذ كأي طالب مصري يدرس في المدرسة ويتخرج من الجامعة، ويتفرج على المعارك الأدبية الدائرة حينها، وقد أشفع تلك الشهادة بدبلوم في التربية وعلم النفس من معهد التربية العالي للمعلمين.

 

مع الشقيق الشهيد

 لا شك أن الأثر الذي تركه الشهيد سيد قطب في جميع أقطار العالم الإسلامي أولى الناس به أقربهم إليه، وهو شقيقه محمد، ولا يخفي محمد ذلك التأثير؛ فقد كان سيد له أبا وأخا وصديقا كما ذكر الشيخ محمد المجذوب في كتابه الذائع (علماء ومفكرون عرفتهم) رواية عن محمد قطب نفسه حيث يقول " يؤكد أن أعظم الناس تأثيراً في حياته كلها هو أخوه سيد الذي كان يتقدمه بأكثر من اثني عشر عاماً في الميلاد، فهو الذي أشرف على تعليمه وتوجيهه وتثقيفه وكان بالنسبة إليه بمثابة الوالد والأخ والصديق، لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي ولما بلغت المرحلة الثانوية جعل يشركني في مجالات تفكيره ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات ولذلك امتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجاً كبيراً بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب" ويوضح محمد قطب تلك العلاقة قائلا:" لقد كانت صلة سيد بي من حيث التربية يتمثل فيها العطف والحسم في آن واحد فلا هو اللين المفسد ولا الشديد المنفر كما أنه كان يشجعني على القراءة في مختلف المجالات وكان هو نفسه نهماً إلى القراءة فساعدني هذا التوجيه على حب المطالعة منذ عهد الطفولة" (علماء ومفكرون عرفتهم) ج: 2 / ص 278.  وقد ظل محمد وفيا لفكر شقيقه وشيخه لم يبدل ولم يغير!!

 

السجن : نهاية الضلال وبداية الحق

من قدر الله أن يمر أغلب العظماء بالسجون ليتأهلوا لحمل الأمانة العظيمة؛ ففي السجن يكشتف المرء نفسه وقيمته ويقوم فكره، ونهجه، وهذا ما عبر عنه محمد قطب في حديثه للمجذوب المتقدم: "كانت فتنة السجن الحربي بالغة الأثر في نفسي إذ كانت أول تجربة من نوعها وكانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييراً كاملاً من بعض الجوانب على الأقل. كنت أعيش من قبلها في آفاق الأدب والشعر والمشاعر المهمومة أعاني حيرة عميقة صورتها في الأبيات التالية من قصيدة جعلت عنوانها "ضلال".

 

كانت تلك الحيرة تشكل أزمة حقيقية في نفس محمد قطب استغرقت من حياته عدة سنوات غير أن الدقائق الأولى منذ دخوله ذلك السجن والهول الذي يلقاه نزيله بدل ذلك كل التبديل لقد أحس إذ ذاك أنه موجود وأن له وجوداً حقيقياً وأن الذي في نفسه حقيقة لا وهم. وهذه الحقيقة هي السير في طريق الله والعمل من أجل دعوته وأن السائر في هذا الطريق ليس ضائعاً بل هو المهتدي وأنه حين يذهب في طيات هاتيك الرمال باللحظة المقدورة له لا يذهب بدداً وإنما يذهب إلى الله وهناك يجد وجوده كله، لقد كانت هاتيك اللحظات مفترق طريق وانتهت الحيرة الضالة ووجد نفسي على الجادة" علماء ومفكرون عرفتهم: 280/2.

 

مشروعه الفكري

كان مشروع الأستاذ محمد قطب الفكري مشروعا نقديا بامتياز، فقد بدأ بنقد منطلقات المناهج الغربية في علم النفس وخصوصا "نظرية فريد" الذي كان معجبا به "حد الفتنة" أيام شبابه؛ ففي باكورة أعماله (الإنسانية بين المادة والإسلام) فنَّد محمد قطب تلك النظرية السخيفة التي تسلب الإنسان كرامته التي حباه الله بها كما يقول، وهو مدخل لرؤية محمد قطب فيما بعد للخلافة الإسلامية التي مبناها تكريم الإنسان، وهذا الكتاب أهم كتبه عنده كما يقول إذ من خلاله "اهتدى إلى خط الإسلام" وقد كان هذا الكتاب كما ذكر هو بذرة لعدد من الأعمال النقدية أيضا؛ مثل "شبهات حول الإسلام" و"في النفس والمجتمع" و"معركة التقاليد" و"منهجية التربية الإسلامية" و"دراسات في النفس الإنسانية" و"الثبات والتطور في حياة البشرية" وحتى "جاهلية القرن العشرين"، ثم ثنَّى نقده بنقد أحوال المسلمين العقدية والعلمية والفكرية، منبها إلى ما سماه "حالة  التيه" التي يعيش فيها العالم الإسلامي وما يتلقاه المصلحون من عنت من خلال كتابيه "واقعنا المعاصر" وهلم نخرج من ظلمات التيه"  فقد نقد فيهما الصحوة الإسلامية ورشدها من خلال المقارنة بينها جيلها المعاصر، وجيل الإسلام الأول مع قضايا أخرى، ذاكرا الأحوال التي كانت عليها الأمة الإسلامية حين ظهور هذه الصحوة المباركة، وقد قسم تلك الأمراض إلى قسمين:

أولا: أمراض العقيدة التي حصرها في النقاط التسع التالية:

1: "الفكر الإرجائى الذي يخرج العبد من مقتضى الإيمان"،

2: الفكر الصوفى، الذى يطمع العبد فى رضا مولاه إذا أدى مجموعة من الأوراد والأذكار، وأطاع الشيخ واتبع هواه، دون القيام بالتكاليف التى فرضها الله، وخاصة الجهاد فى سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والسعى إلى تقويم المجتمع"

3: الانحسار التدريجى فى مفهوم العبادة من كونه شاملاً لكل حياة الإنسان" .

4: تحول عقيدة القضاء والقدر من عقيدة دافعة تدفع صاحبها إلى الإقدام والشجاعة فى مواجهة المواقف، إلى عقيدة مخذلة، صارفة عن العمل، بدعوى أن ما لك سوف يأتيك، وأنك مهما عملت فلن تحصل إلا ما هو مكتوب لك، فلا ضرورة للعمل! وتحولها من عقيدة تحمل الإنسان مسئوليته عن عمله حين يخطئ أو يقصر، إلى محط يحط الإنسان عليه تقصيره وإهماله، بحجة أن كل شىء مقدر"

5: تحول التوكل على الله من شعور إيجابى، تصحبه العزيمة وإعداد العدة، إلى شعور سلبى متواكل لا يأخذ بالعزيمة ولا يتخذ الأسباب"

6: تحول الدنيا والآخرة فى حس الناس إلى معسكرين منفصلين، العمل لأحدهما يلغى العمل للآخر، بعد أن كان فى حس المسلم أن عمله فى الدنيا هو سبيله إلى الآخرة، وأنهما ليسا طريقين منفصلين، ولا متضادين ولا متعارضين، إنما هو طريق واحد أوله فى الدنيا وآخره فى الآخرة"

7: تحول الخلاف المذهبى من كونه اختلافا فى وجهات النظر، إلى عصبيات تشغل أصحابها وتفرقهم بعضهم عن بعض حتى فى الصلاة".

8: نشأة الفرق بتأويلاتها الفاسدة وخلافاتها الحادة فى قضايا الصفات، وقضايا القضاء والقدر، وقضايا الجبر والاختيار، وشغل الناس بهذه التأويلات الفاسدة عن صفاء العقيدة وسلاستها ووضوحها وبساطتها، إلى قضايا تستهلك الطاقة ولا تؤدى فى النهاية إلى ثمرة فى عالم الواقع".

9: ضعف الإيمان باليوم الآخر، وانحسار فاعليته فى مشاعر الناس وتصرفاتهم".

 

أما أمراض السلوك فقد حصرها في القائمة التالية:

1: خلف المواعيد والاستهانة بالوعد كأنه غير ملزم لصاحبه، إنما هو مجرد كلمة يطلقها فى الفضاء!.

2: الكذب.. وفى كثير من الأحيان بغير موجب للكذب!.

3: الغيبة والنميمة!

4: الالتواء فى التعامل مع الآخرين، وتجنب الاستقامة، واعتبار ذلك من البراعة!

5: عدم الأمانة فى العمل: فى الصغير والكبير، الغنى والفقير، (العظيم) والحقير.. إلا من رحم ربك!

6: عدم احترام الوقت، والتفنن فى تضييعه و(قتله) بشتى الطرق، وأهونها الفراغ الطويل الذى لا يمل منه صاحبه، ولا يشعر فيه أنه قد أضاع شيئا ثميناً كان يجب أن يحرص عليه!

7: ضعف الهمة للعمل وعدم الرغبة فى بذل الجهد إلا كرهاً!

8: عدم الرغبة فى الإتقان  وقضاء الأمور فى أقرب صورة (لسد الخانة) وحتى هذه فلا يقوم بها صاحبها إلا مخافة اللوم أو التقريع أو العقاب!

9: الغش، وعدم التحرج من إتيانه كأنه حق من الحقوق الشروعة!

10: الاستهانة بمسؤولية الإنسان عن عمله، وعدم الشعور بالتأثم من الخطأ أو الإهمال أو إضاعة حقوق الناس أو مصالحهم أو أموالهم أو راحتهم أو أمنهم!

11: إهدار ((المصلحة العامة))، وعدم الإحساس بالمسؤولية تجاهها.!

12:  الملق لأصحاب السلطة،بمناسبة وبغير مناسبة!

13: الرياء فى أداء الأعمال،الذى يحولها إلى أعمال مظهرية لا يقصد بها مضمونها الحقيقى، سواء كان العمل مشروعاً عاما يقصد به الدعاية المظهرية أو عملاً خاصا لإرضاء الآخرين ونيل ثنائهم دون إيمان حقيقى به!

14-16: (الثلاثى الرهيب الذى يمثل طابعا عاما للأمة،ويفسد عليها كثيرا من شؤونها:الفوضوية التى تكره النظام، والعفوية التى تكره التخطيط، وقصر النفس، الذى يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة، والذى يتسبب فى فشل كثير من المشروعات بعد التحمس لها فى مبدأ الأمر،إما بسبب الفوضى فى الأداء، أو الارتجال الذى الجهد بلا ثمرة،أو انطفاء الحماسة وفقدان الرغبة فى المتابعة أو بسببها جميعا فى وقت واحد!..

 

وقد نشأت عن هذه الأمراض كل ماظاهر التخلف التي أفاقت عليها الأمة في يقظتها الأخيرة، وقد عاش الشهيد محمد قطب عمره المديد معالجا لها ومقوما، وإن كان بعض أمراض العقيدة والسلوك نال حظا أوفر من غيره، كقضية الإرجاء حيث أشرف على بحث يعد من أهم البحوث التي كتبت عنه في العقود الماضية، وهو رسالة دكتوراه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي" التي أعدها الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي شفاه الله وهو أحد أبرز المتأثرين بنهج آل قطب في بلاد الحرمين، وأحد الأربعة الذين شنروا صحوة متزنة فيها، وقد كانت كل الرسائل التي أشرف عليها لها علاقة بمشروعه الفكري النقدي، يضيق المقام عن استيعاب ذلك، وهي فرصة لأبناء المشروع الإسلامي أن يطلعوا على تراث ضخم وعظيم بلغة جزلة وعاطفة صادقة، وتحليل عميق.

 

لا نامنت أعين الجبناء

ما ناله آل قطب من الأذى والمحنة لم تنله أسرة في عصرنا الحاضر؛ فقد دخلت السجن أجمعها، واستشهد منها "سيدها" شنقا، وابن أخته تحت التعذيب، ودخلت أخوات الشهيدين الثلاث؛ السجن وعذبن كما عذبت أم ياسر، وقد شاع أن محمدا استشهد تحت التعذيب، فدعا له جل المسلمين، ثم تفاجأ أهل المدينة المنورة بإعلان محاضرة له في جامعتها، فقد حاول الطغاة صد آل قطب عن الوجهة إلى الله بالترغيب والترهيب، فما نجحوا في ذلك؛ فارتقى منهم من ارتقى شهيدا، وعاش  منهم من عاش عمرا مديدا كمحمد وأمينة؛ فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، ولا نامت أعين الجبناء!!!!

محمد قطب الشهيد المعمَّر!!!/إبراهيم الدويري

السراج TV