"هدى للمتقين"/سيد ولد عيسى |
الأربعاء, 10 يوليو 2013 11:38 |
"هدى للمتقين" يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن كتابه فيه الهداية، ولكنها هداية خاصة لنوع خاص من الناس، وليست هداية عامة لكل من هب ودب في كل حين ولحظة، هذه الهداية خاصة بصنف من الناس سماهم الله تعالى في هذه الآية بالمتقين، فما هي صفات هؤلاء؟، وما هي أبرز مميزاتهم؟. ذلك ما سنناقشه في النقاط التالية: احتمالات الوقف: يمكن الوقف في هذه الآية على قول الله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب" ويبدأ القارئ واصلا من قوله: "فيه هدى للمتقين"، ويمكن أن يصل "لا ريب" بـ "فيه" فيقف على الأخيرة "لا ريب فيه"، ويبدأ من قوله: "هدى للمتقين"، وعلى كلا الاحتمالين يبقى القرآن فيه الهدى للمتقين، أو هو ذات الهدى للمتقين. ولكل هذين المعنيين من الكمال الذاتي والدلائل الخارجية ما يشهد له ويقويه. معنى التقوى: شرحت آية البقرة التقوى بأن المتقين هم "الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون"، وأضافت أنهم "الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون"، فالآيات أعطت صفات المتقين مفصلة غاية التفصيل: 1- يؤمنون بالغيب: والغيب يشمل الغيب الماضي قبل خلق البشرية، والغيب الماضي بعد خلقها مما قصه الله، كما يشمل الغيب الحاضر مما لم يشاهده الإنسان، وأخبرته عنه الرسل، كالإسراء والمعراج، وغير ذلك... لكن القرآن لم يترك الكلمة تتحمل كل هذا فشرحه ورفع عنها بعض الحمالات بتوضيحها في الكلمات اللاحقة، لكنه فصل بين هذا وذاك بالصفة الثانية من صفات المتقين، وهي أنهم: 2- يقيمون الصلاة: وإقامة الصلاة فعل شيء غير أداء الصلاة، وغير الصلاة في حد ذاتها، فإقامة الصلاة تشتمل: أ- التوفر الشرطي: بمعنى أن يحصل الإنسان الشروط اللازمة للصلاة، لكي تكون صلاة فعلا، كالطهارة الحدثية (بدليل قول الله تعالى: "...إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا..."، وبدليل قوله تعالى عاطفا على النهي عن قربان الصلاة حالة السكر "ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدواماء فتيمموا....")، والخبثية (بدليل قول الله تعالى: "وثيابك فطهر")، وستر العورة (بدليل قول الله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد...)، واستقبال القبلة (بدليل قوله: "وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره"). ب- الأداء الشكلي للصلاة، كما كان يؤديها النبي صلى الله عليها وسلم، وهو المبلغ عن الله بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ت- الأداء الروحي: وهو الخشوع، بدليل قول الله تعالى: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون"، وقوله: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، ووصفه لأنبيائه بأنهم "كانوا لنا خاشعين". فهذه بعض ملامح إقامة الصلاة، التي إن لم تتوفر لن تكون صلاة، ولا جسر وصل بين العبد وربه، يرتاح بها، وتكون فيها قرة عينه، ولن تنهى عن الفحشاء والمنكر، ما لم يكن لها معنى تقوم عليه، بعد إتقان المبنى وإكماله. 3- "ومما رزقناهم ينفقون": وهذا التذكير بالرزق قبل الوصف بالإنفاق، والتعبير عن الرزق بالفعل الدال على التجدد في الصلة "رزقناهم"، وفي الخبر "ينفقون"، يشير إلى متلازمة من الضروري للمسلم الانتباه إليها، وهو أنه ينبغي عليه أن ينفق –تطوعا- بقدر ما يرزق، فكلما تجدد الرزق، وهو سيتجدد لا محالة ما دام الإنسان حيا، فعليه أن يجدد الإنفاق، وهذا الإنفاق بهذا المعنى أوسع من الصدقة اللازمة "الزكاة" التي هي قدر محدد من مال محدد، بينما الإنفاق هنا قدر مبهم، من رزق مبهم، فالإنسان يجتهد فيه ونفقه حسب إيمانه واتصافه بالصفة التي جاء الوصف بالإنفاق ليلقي الضوء على بعض جوانبها، ألا وهي "التقوى". 4- الإيمان بالقرآن: وهذا تخصيص داخل الإيمان بالغيب، فالغيب اسم واسع كما مر، يدخل فيه كل غيب مهما كان، إلا أن هذا القيد أخرج النصارى واليهود الذين يؤمنون بسابق الغيب ولا حقه ويكفرون بالغيب المتعلق بهذا القرآن، بغض النظر عن تبرير ذلك الكفر، أقصرا للرسالة على صنف من الناس معين، أم كفرانا بأصلها.. والمهم أن من لا يؤمن بما أنزل على محمد ليس من المتقين، وبالتالي ليس من المستفيدين من الهداية المبثوثة في القرآن. والعطف في الإيمان بالقرآن مع تأكيد الاسم الموصول "الذين" مرة أخرى بعد ذكره في صدر الآية، دليل على مركزية الإيمان بما أنزل على محمد في صفات المتقين، وفي أسباب الهداية، ولا يقتصر ما أنزل على محمد على القرآن بل يسع القرآن والسنة معا، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، وبدليل قول الله تعالى: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلى وحي يوحى"، وبدليل قوله: "ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين"، فكل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم حق وصدق، ووالله "ما يخرج منه إلا حق". وهذا الإيمان لا يمكن بأي حال أن يكون إيمانا جامدا مكتف بأن يقول الإنسان بلسانه إنه مؤمن به، بل ولا يكفي إن خلط ذلك بيقين قلبي، بل لا بد أن يجمع إلى الاثنين عمل الجوارح، من تحاكم، وتصديق، وتطبيق على أرض الواقع، فالذين لا يتحاكمون إلى شرع الله، ولا يحتكمون إلى منهج الله، أو يحتكمون إليه، مع بقاء حرج في نفوسهم مما قضى، لم يتحققوا الإيمان المقصود، ولا التقوى المقصود، ولسوا بالتالي أهلا لهداية القرآن. فالله تعالى يقول: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم"، ويقول: "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله وعليهم ورسوله؟ بل ألئك هم الظالمون"، ثم يؤكد صفة المؤمن المخالفة لهذا: "إنما كان قال المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وألئك هم المفلحون، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون". ويقول أيضا: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما"، فخطير أمر يحتاج فيه إلى التحكيم المطلق، والنفي التام للحرج، وتأكيد ذلك بالتسليم، وتأكيد فعل التسليم بمصدره... 5- الإيمان بالكتب السابقة: "وما أنزل من قبلك"، فالإيمان بما أنزل على محمد، ليس صك غفران يجعل صاحبه مكتف به عما سواه، بل لا بد من الإيمان بما أنزل من قبله، وإن كان هذا عاما على كل مسلم، فإنه في حق من يدخلون الإسلام من اليهود المكذبين برسالة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، آكد وألزم، بل هذا الإيمان حائل كبير بين الإسلام، ومن يدخلونه من أجل تصفية حسابات داخلية بينهم وبين "مذاهب" في نظرهم يعارضونها، كمن يرون أن سليمان كان ساحرا كافرا، فمذهبهم لن يترجح بدخولهم للإسلام، ولن يجدوا فيه بغيتهم ولا ضالتهم، ولن يكون الإسلام وسيلة لانتصار بعض المذاهب على بعضها بل هو الحق المحض الذي لا ريب فيه، والذي هو الكتاب لا ريب. 6- اليوم الآخر: ورغم أن اليوم الآخر داخل في المغيبات التي يجملها الإيمان بالغيب، فلا بد من الإيمان به، فلا معنى للدهرية في إيمان المتقين المهتدين، والمطلوب في اليوم الآخر شيء أخص من الإيمان، شيء اسمه "اليقين"، فلا بد من الإيقان بالآخرة، واليقين بالآخرة، أمر لا توفره الفلسفات مهما تعمقت، ولا توفره الدراسات النظرية ولا المحاضرات التلقينية، ولا حفظ ما في الأرض من كلمات، إنما يوفره شيء واحد، هو الوقوف مع ما في كتاب الله من أخبار عن اليوم الآخر وقفة المصدق، ثم العمل له، عمل المؤمن، وبعمل المؤمن، وقراءة المصدق، ومع المجاهدة الدائمة والتأكيد المتكرر يحصل المقصود وهو اليقين بيوم القيامة، وما فيه من جزاء للمحسن، وعقاب للمسيء. نتيجة التحلي: (هؤلاء المتصفون بهذه الصفات (الإيمان العام بالغيب، والإقامة الدائمة للصلاة، والإنفاق المستمر مما رزقوا، والإيمان الخاص بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، واليقين بالآخرة.) هؤلاء "على هدى من ربهم"، وكونهم عليه تشير إلى أنه بإمكانهم النزول عنه، أو التحول في أي لحظة يقررونها، وهذا ما يشير إلى خطورة الخاتمة المشار إليها في حديث ابن مسعود: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"، ولكن ما داموا على هدى، فهم المفلحون، فإذا انحرفوا لم يستحقوا الفلاح، لترتبه على البقاء على الهدى المنسوب لله "هدى من ربهم". |