الملعونون/ سيد ولد عيسى
السبت, 13 يوليو 2013 19:26

سيدي محمد ولد أحمد عيسىسيدي محمد ولد أحمد عيسى"إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم"

امتدح الله العم وأهله، ورفع من شأن العلماء وقدرهم، وفضل أهل العلم على غيرهم في آيات كثيرة من كتابه... لكن هذه الآية تختلف عن كل تلك الآيات إنها تخاطب نوعا خاصا من أهل العلم، حملوا العلم وعلِموه، لكن السلوك الذي انتهجوه مع العلم يختلف عن السلوك المطلوب من العالمين...

ووقفة قليلة مع هذه الآية تبين بعضا من ذلك.

أجزاء الآية:

 

تتكون الآية من عنصرين أساسين، يحدد الأول منهما التهديد والثاني يفتح الباب لمن شاء أن ينجو بنفسه قبل أن يحق عليه الوعيد.

ففي الشق الأول بين الله تعالى أن الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى من بعد تبيين الله له في كتابه يلعنهم الله، ويلعنهم من كلفهم الله بلعن من يلعن.

وفي الشق الثاني يبين شروط النجاة من هذا اللعن وهذا العذاب، وأن النجاة منه لا تتم إلا بالتوبة والإصلاح والتبيين.

 

جزئيات الصورة:

 

إن أهل العلم هؤلاء المذمومين في هذه الآية المتوعدين بالعذاب الشديد، والتهديد الأكيد يتصفون بمجموعة من الصفات هي:

1-      الكتم:والكتم كلمة توحي بقمة الإخفاء والمصادرة، فالكاتم ليس الذي لا يتكلم، وإنما ذاك الذي يحبس صوته عن النطق، وقد كاد أن يسمع، إنه يحاول إخفاء الصوت وقد بان بعضه، فباء جهده بالفشل، لأن الصوت قد خرج منه ما يدل على المعنى المراد، فحجب الباقي، وكأنه ضُبط في حالة تلبس، تماما كذلك الصبي الصغير الأبله الذي يدخل إلى البيت فيأكل مما نهي عن الأكل منه، ويخرج وآثار المأكولات (حلويات أو غيرها) بادية على خديه شاهدة على مخالفته، أو كذلك السارق الذي يسرق جراب الدقيق، فيسير به إلى بيته في قمة التخفي والحيطة والحذر غير منتبه لثقب في الجراب، يجعل آثار الدقيق باقية في الطريق معينة على القص والاتباع...!!، إنه الكتم الذي لا فائدة فيه، كتم ما لا يمكن كتمه؛ لأن المكتوم من:

2-      ما أنزلنا:إن هذا المكتوم "العلم" لا يمكن كتمه لأنه منزل من السماء، ولو تصورنا الصورة المادية للمنزل من السماء، وتساوي الناس في رؤيته، وانتباههم لمكان نزوله، لأدركنا أن "ما أنزلنا" لا يمكن كتمه، ولا يمكن أن يحتفظ به الكاتم في بيته، ولا أن يغيبه عن أعين الناس؛ لأنه:

3-      من البينات:إنه ليس من مخفيات الأمور ولا غوامضها، وليس مما يتفاوت فيه الناس، فيفطن له بعضٌ ويفوت بعضاً، إنه "من البينات" الواضحات التي لا تخفى، ولا يمكن إخفاؤها، إلا إذا أمكن إخفاء قطرات السحاب، وقد تكاثرت، وتطايرت، وأصاب كل َّكائن منها بلل، فكيف يمكن لإنسان أن يحبس قطراتها في بيته أو يمنعها من غيره، إن ما حصل عنده منها بنسبته إلى ما عند الآخرين ليس بأكثر من ما جمع وحصل في أوانيه، فحفظه حين ضيع الناس ما عندهم، وإذا احتاج الناس إلى ما عنده فسيذهبون إليه، ليأخذوه منه مطيعا أو كارها؛ ولأنه من:

4-      الهدى: فالناس محتاجون إليه ولا يمكن استغناؤهم عنه، ولا يجديهم كتمه، فهم يعلمون به يميزون طبيعته، ويعرفون مكانه، لا يمكن أن يستبدل بغيره، ولا أن يخلط بغيره، ولا أن يضاف إليه غيره، إن خصائصه المميزة، وكونه منزلا، وكونه بينا تجعله معلوم الشكل واللون والنوع والصنف لدى الناس، فلا يمكن أن يعتاضوا عنه بغيره، ولا أن يحتال عليهم، فيعطون غيره بدلا عنه، وما مثل ذلك إلا كمثل صاحب الجراب، قص أثر جراب سويقه إلى باب دار السارق فقال هات جرابي! لا يمكن للسارق أن ينكر فالأثر واضح، ولا يمكن أن يستبدل الجراب بغيره، فالرجل يعرف جرابه، ولا أن ينقص ما فيه، ولا أن يزيده بما ليس منه، فالجراب الجراب، وما فيه معروف إنه السويق، وليس القمح، ولا الشعير...

وأكثر من ذلك، فليس هذا المكتوم مجهولا لهذا القدر إن من أنزله قد:

أ‌-                 بيناه للناس: وليس الوقت الآن بمناسب لكتمه، فلو كتم قبل بيانه، لكان ذلك أقرب إلى احتمالية النجاح، رغم أن الناس يعرفونه في الأصل، أما الآن، وقد أعيد التذكير به، وتبيينه لمن نسيه أو اختلط عليه بغيره، أو نسي بعض صفاته أو بعض خصائصه وجزئياته، فلا يمكن الإخفاء ولا يمكن الطمس وكيف يمكن وهو مبين في:

ب‌-     الكتاب: إنه لم يبين شفويا، فيضيع وتختلف الأدمغة في حفظه، إنه مبين في "الكتاب"، والكتاب موجود ويمكن الرجوع إليه في أي لحظة، الكتاب موجود محفوظ حفظا متواترا في الأذهان، وموجود محفوظ حفظا متواترا في الصحف والقراطيس، فكيف يمكن الإخفاء، وأنى يصح الكتمان!!؟.

 

جزاء الكتمان:

 

والآن وقد اتضح الفعل وطبيعه، فما هو الجزاء؟، إن جزاء الكتمان هو اللعن، هو الإبعاد عن الرحمة، هو لعنة الله منزل الكتاب جلا وعلى مبينه، والهادي به، إنها لعنة الله تلاحق من يكتمون ما أنزل من البينات والهدى، إنها أخطر عقوبة قد تواجه حامل العمل، وكأن اللعنة في هذا الحال تتجسد ماديا، فتكون الإنارة، فلنتصور حامل مشعل يريد أن يستنير به في طريقه، نزع الله من مشعله خاصية الإنارة، فبقي في ظلامه يتخبط، رغم كونه حامل المشعل، وما زال يحسه في يده، ويرى توهجه بعينه، إلا أنه فقد دوره، وأصبح عبئا عليه، وعارا أمام عينيه، إنها اللعنة التي تصيب من لم يبلغ العلم، وكتمه واحتكره، إنها ولله المثل الأعلى تحاكي من أعطته شبكة الكهرباء حق توزيع الكهرباء على حي من الأحياء، وملأت بيته بالموصلات، والكابلات المختلفة الأحجام المتباينة الأشكال، فاتصلت به الأسلاك من كل جانب تطلب الإنارة فمنع الناس الإنارة، فحجبت عنه إدارة الشبكة الكهرباء فبقي في ظلام دامس، والأسلاك والكابلات ما زالت تتصل به من كل جانب، كدليل على إدانته، وكعار معلق على داره... ولله المثل الأعلى.

ومع لعنة الله يلعنه اللاعنون، يلعنه من كلفهم الله باللعن، ويلعنه كل مسلم "اللهم ما لعنت من لعن فعلى من لعنت"، إن من كان بإمكانه أن يجعلهم امتدادا له، وصدقات جاريات فيما بعد مماته، أصبحوا لعنة عليه، وعارا عليه، وعبئا عليه ويتحمله إلى أعبائه، إنه بلعن الله له، خسر كل شيء، لكن حين يلعنه الناس، لا يبقى له ذكر حسن، ولا أجر منتظر، "خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين"، ضاع بين الله والناس، فلم يبق له ما يتسلى به في مصيبته، ولا ما يؤنسه في وحشته، إنه مطرود من رحمة الله، مطارد من رحمة العباد، وكيف يرحم العباد من لم يرحمه أرحم الراحمين، وكيف يرحم الناس من لم يرحمهم، وكيف يعطي الناس من يمنعهم ما لا ينفعه منعه؟؟؟؟

 

باب التوبة:

 

وأمام هذا المشهد الفظيع والفضيحة النكراء التي يتعرض لها من يكتمون العلم عن الناس، يفتح الله تعالى باب التوبة على مصراعيه أمام هؤلاء لكنها توبة ليست ككل توبة، إنها توبة مشروطة بأعمال محددة، فلا بد إذن من:

1-      التوبة: والتوبة هنا جاءت بصيغة الماضي، فلا ينفع الشروع فيها، ولا الدخول في رحابها، لا بد أن تتحقق تحققا كاملا يستطيع المخبر الصادق أن يقول عن صاحبها إنه "تاب" وليس "يتوب"، والتوبة عادة تشم الندم على ما فات والنية أن لا يعود، مع ترك المعصية أو المخالفة، لكن التوبة هنا لا تكتفي بذلك، والتائب هنا لا يرتفع عنه اللعن الإلهي ولعن اللاعنين قبل:

2-      الإصلاح:وما له وللإصلاح، هل ذكر فساد حتى يحتاج إلى ذكر إصلاح، إن كاتم العلم مفسد، وهادم، فلا بد أن يصلح ما أفسد، وأن يشيد ما هدم، فهو كممثل شبكة الكهرباء المعتمد، لا بد أن يعوض عن الخسائر التي لحقت بالمشتركين جراء قطعه المتعمد للكهرباء، والإصلاح كالتوبة، مطلوب بصيغة الماضي، فلا يرتفع اللعن، قبل أن يكون قد أصلح، ومسكين هو كيف يصلح، وقد كتم علما ينتفع به، في لحظة وانتهت، كتمه فترتبت مخالفات شرعية على كتمه، لم تختزنها ذاكرته، ولم يحتفظ بها مدوناته... إن الإصلاح أخطر ما يطلب من كاتم العلم، فهو كقاطع الكهرباء، يمكن أن يدعي عليه كل أهل بيت أنه تسبب في إتلاف ممتلكاتهم التي لا يعلم عددها إلا الله، وهذه المطالبة بالإصلاح، حين تقارب أن تكون من طلب المستحيل، تردها الآيات المقررة لقصر التكليف على المستطاع، فيحتاج التائب من الكتمان بعد ذلك إلى مزيد جهد وبذل، في أن يصلح كل ما أفسده، وأن يبني كل ما هدمه، مما علق بالذاكرة، أو ذكره به الآخرون، وفي الاستطاعة ما يبلغ منه الجهد ويستنفد الطاقة، ثم بعد ذلك يبقى يطلب من ربه العفو عما نسيه، ويبقى عالقا بذهنه الخوف من أن يكون قد فرط ولم يبذل كل الجهد، أو أن يحيق به بعض مما أفسد وهدم؛ لأن المطلوب منه، والمشروط عليه هو أن يكون قد "أصلح"، وليس أن يصلح بعضا ويترك بعضا... والشرط الثالث لرفع اللعن هو:

3-      التبيين: فمن كتم لا بد أن يبن، إن التبيين اعتراف بالكتمان، وفضيحة أمام الناس، يعترف فيها الكاتم أنه كان يتكم، وأنه كان يقول غير الحق، أو يلبسوا الحق بالباطل، أو يفرح بما أوتي ويحب أن يحمد بما لم يفعل، أو يكتب الكتاب بيديه ثم يقول يقول: هذا من عند الله، إنه في كل الحالات اعتراف بالجرم، وتصريح بتعمد ارتكاب الخطأ، قد يدفع صاحبه إلى أن يخسر الناس؛ لأنه ما دام اعترف فقد تتزحزح الثقة فيه، وقد يتهم بأنه ما زال سادرا في غيه.

 

والله التواب الرحيم:

 

إنما يتعرض له الإنسان بسبب هذه المخالفة الشنيعة، والإثم البين، والفساد الواضح، والمكر السيئ قد تعرضه حين التوبة لألسنة الناس، ولعدم ثقة الناس، وللشك والهمز واللمز، إلا أن ربه الذي خلقه وهو أعلم به، يربط على قلبه حين يتوب، وكأنه يعزيه، فيما قد يلاقيه من الناس، فتحول الخطاب من ضمير المتكلم المعظم نفسه جل وعلا، رغم أنه ضمير معروف للمتكلم المفرد، إلى ضمير المفرد المحض، لئلا تختلط الشراكة في ذلك، فالله وحده الذي يعلم ما في القلوب هو الذي يتوب على الكاتم إن تاب، وأصلح، وبين، لأنه وحده هو التواب الرحيم.

سبحانك ربنا ما أعدلك، ما أشد بطشك وعقوبتك، وما أرحمك، إنك أنت التواب الرحيم.

وبهذه الجولة مع الآية، تضح خطورة كتم العلم، وافتضاح من يكتمون العلم أمام الله وأمام الناس، والقيود الواردة على توبتهم، المبينة لخطورة ما ارتكبوه، وعظم ما جنوه، ثم تختم بأن من يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما يفعلون، هو من يقبل توبة العبد إذا تاب وأصلح وبين.

الملعونون/ سيد ولد عيسى

السراج TV