صنفا رمضان/محمد ولد الراجل
السبت, 20 يوليو 2013 19:42

 

الناس في رمضان صنفان، مستقبلوه بفرح وعزة، يرون فيه راحة قصيرة عن أدران دنيا كدرت صفو حياة أريد لها أن تكون سماوية، وصنف ثان يأتيه رمضان كسلان النفس جزع القلب، يرى في الشهر الفضيل مجرد كبت ما لذ وطاب، ويعد الثلاثين يوما يوما، ليته خرج منها..

(1)

قلوب شدها حب الراحة الرمضانية والسكينة الإيمانية، تخفق طربا لاستراحة عن جو ملئ كدرا، سنة من جولات الشياطين وصولاتهم، لقد آن الأوان فعليا لأخذ نفس طيب عن ملوثات فتكت بالروح طويلا.. شعبان موسم فرح، ونشر للبساط الأحمر بأفئدة الطاهرين استقبالا للشهر الكريم، قلوب تخفق، وعيون تدمع فرحا وحبا، بارقة أمل للمؤمن، حينما يرى ملجأه نحو الله اقترب، وهتاف المؤمنين بأدعيتهم "اللهم بلغنا رمضان.. اللهم اجعلنا من عتقائه..." ويحل الضيف مرحبا به، ليودَع مكانا فسيحا بالسويداء، يستعين المؤمن بربه أن ييسر له الصيام والقيام، والأيام هناء متسربة مع الدقائق سرعة.. تريد أن ترتحل.. والمنافس المجد بتوأدته وجديته وعجلته نحو ربه يسابق الأيام القليلة عل فوزا يكتب له فيها.. أهلا رمضان.. ترددها الروح الطاهرة، وما إن تبدأ الليلة الأولى حتى يمتزج الفرح بجزع، لأن في نواميس هذه الفانية أن ما بدأ انتهى، وأن الضيف مرتحل، وخفيف الظل وداعه التسليم..

(2)

وفي الزاوية الأخرى حزين على مفارقة أقرانه المصفدين، تمر عليه الأيام حسرة، وكأنما أغشي قلبه النتن قطعا من البؤس، يحسب رمضان سجنا كدرا عليه ليته ما قدم، وإذا قدم ليت أيامه الطويلة ترتحل.. ثلاثون يوما ما مر منها إلا واحد، ساعات اليوم ودقائق الساعات، وعدا لتفاصيل تطيل الزمن الثقيل، وتنفسات ثقيلة، والدنيا ملئت كدرا، والنفس حبست عن لذات تعودت عليها.. رمضان قدم.. ثلاثون يوما،، لطفك ربنا.. اللهم يسر لنا.. رمضان حار.. قاموس مليء بعبارات الحزن، ونفسيات فاسدة يستقبل بها المعتوهون رمضان.. وما إن يبدأ رمضان حتى يبدأ معه برنامج ليتجاوز بها المريض رمضان بأكثر أكْل وأقل استيقاظ، سهر في الليل، وتعويض للبطن عما فاته وجه النهار من ملذات.. الفكرة الرسمية التي أنتجها هذا العقل المريض هي معبرة النوم كأحسن وسيلة لتقصير رمضان، وتقليم ساعات أيامه الطوال حسب هذا العقل.

(3)

الحقيقة أن رمضان ضيف آخر.. كبير وثمين.. وليست نغمات الفرح، وثغور الابتسام وحدها تكفي، وإنما ينبغي تشمير عن السواعد، ومواصلة الغدوة بالروحة، والاستعانة بشيء من الدلجة، فسلعة الله غالية، ولا بد لها بمضاعفة الجهد، وتكثيف الجهد.. إشارات، وسنن واضحة، وجهود متواصلة وشد للمئزر، وإيقاظ للأهل، تلك لبنة الجهود الأولى وإشارات تدشينية لها، ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عملا ممنهجا وإدارة للوقت الرمضاني.. وإنه جهاد في سبيل الله، وصلت للسيف، في رمضان حيث أن أهم معركة في التاريخ الاسلامي كانت فيه، وهي غزة بدر الكبرى مؤسسة الانتصارات للأمة الاسلامية.. كان الليل محاريب للراكعين الساجدين، وتفكرا في خلق السماوات والأرض، واستغفارا أوقات السحر حينما ينزل الباري جل جلاله إلى السماء الدنيا.. وألئك الرهبان هم فرسان الوغى في ميادين الجهاد، ولم يكن أبدا الخلود إلى النوم، وحب الراحة من البرنامج العملي لهم، كلا! فهم رجال مدرسة الليل، معاندي الأصنام، وقواد معارك الدماء الإسلامية الخالدة..

(4)

وكان وداعا منه أن هو سلما، طرق علينا الباب، وما إن حل حتى هم بالانتقال.. نعم؛؛ ليالي الهنا تمر عجالا! وأيام الوصل ساعات منتقلة لا تتوقف.. ذلك هو رمضان.. حل ليرتحل! وكأن أيامه كلها لا تتعدى الثلاثة، انقضى أحدها وبدأ الثاني.. يوم يأتي.. رغبة وشوقا للشهر الفضيل، تحركات الطبيعة.. ترانيم.. ترحيب.. وكل الكون نغم جمال وابتهاج.. حل الضيف.. ليبدأ يوم ثان، يُحل الضيف محلة اليمن من القلب، لنستأنف ساعاتنا السعيدة معه.. يبدأ حديث الندامى، وحكايى الأحباب لأشجان بينهم، ولوعة أحد عشر شهر من الغربة.. وتبدأ مع حديث اليوم الثاني صيحة غراب.. ألا قد حان البين.. حان الوداع..! ثلاثة أيام، بلها ساعات قصار، حل فيها رمضان وودع.. يودع بقلوب أشرب حبا له، وأرواحا تعلقت به، وكأنما هو استراحة للمؤمنين تماما كاستراحة دقائق عن متعب الأعمال.. بنقضي الشهر الفضيل ويودع طاويا صفحته الميمونة بحسنات للمشمرين عن السواعد، لتحتوي نفس الصفحات ـ مكرهة ـ على تصرفات شياطين الإنس الذين لم يشفع لهم تصفيد أقرانهم من الجن، وإنما أخذوا الطريق وورده، حتى ولو قل المعين فأنفسهم تكفي.. قد تكون أسماؤنا ممن طبع في سجل الراحلين قبل رمضان المقبل، لنلتحق بمن غادروا دنيتهم هذه، وكان من أحب ما فيها عندهم رمضان.. نعم.. يغيب رمضان، ليترك نفثا من روحه في أفئدة المؤمنين، وشهادة صادقة على الخاملين عشاق السرر أنهم اختاروا التخلف.. وبين الفريقين معان كبيرة من فقه الصيام قل من يستوعبها، ومؤداها أن المهم صيام رمضان، لكن الأهم كيف نحافظ على الروح الرمضانية بتجلياتها الإيمانية ماثلة في أرواحنا؟

 

صنفا رمضان/محمد ولد الراجل

السراج TV