سلسلة الحكم العطائية /الحكمة الثانية:بقلم الأستاذ أحمد سالم ولد زياد |
الثلاثاء, 27 أغسطس 2013 14:38 |
الحكمة الثانية: إرادتُكَ التجريدَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في الأسباب؛ من الشَّهوة الخفيةِ. وإرادتُكَ الأسبابَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في التجريد؛ انحطاطٌ عن الهِمَّةِ العَلَيَّةِ. الحياة كلها ابتلاء وامتحان؛ فمن الناس من يمتحنُ بالأشغال الدنيوية والتكسب الواجب عليه لأداء أمانة من يعول... ومنهم من يمتحنُ بالبطالة والفراغ من الأشغال الدنيوية؛ فقرا إليها، أو غنًى عنها بمال وعقار، أو بوجود مُعيل أو مُعين على هموم الحياة.. . وكلُّ مأمورٌ أن يعبد الله على حالته التي أقامه فيها.. والطالبُ المجتهد لا يجلس أمام ورقة الاختبار يتململ تململ السليم؛ متذمرا من الأسئلة بحجج واهية، كأن يقول: (غيروا الأسئلة، أريد أسئلة أخرى). مضيعا لوقتٍ ثمينٍ لن يعوض له؛ بل المجتهدُ ينكبُّ على ورقته يجيبُ الذي يستطيعه من الأسئلة تباعا.. أمَّا المماحك الكسول؛ فسيظل يشكو ويتذمر حتى وإن غيرت له الأسئلة كلَّ مرة.. فيضيع الوقت في التسويف وليت ولعل.. يضيق عطن البعض عن فهم هذه الرسالة المتوازنة بين التطرف المفرِط والمفرِّط، فتراه إما منكبّا على الدنيا منشغلا بجمعها عن نفسه وإصلاحِها وأخراهُ والعمِل الصالحِ.. أو تراه متكلا على الغير، متواكلا؛ عالة على الناسِ، أقعده الكسل وأعياه الخبل؛ بحجة أن الله ضمن له رزقه.. وقد نسي أو تناسى أو جهل أو تجاهل أن الله ربط ذلك بسبب..!! والشهوة الخفية هي أدقُّ أنواع حظ النفس؛ تختفي في الإعمال الصالحة لتحولها من عباداتٍ إلى عادات، تنشبُ أظافرها في العابد المتبتل؛ فلا تتركه إلا وقد تغير حاله واتبع هواه وتملك منه الشيطان!! فالعمل لا يقبله الله إلا إذا كان خالصا لله؛ لا شريك معه فيه، عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : (( قَالَ الله تَعَالَى : أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )) . رواه مسلم. ولأقرب لك الشهوة الخفية؛ فسأضربُ لك مثالا، وهو :رجل يحبُّ الإستماع إلى قراءة عبد الباسط عبد الصمد، قد يكون أحبَّ الاستماع إليها لأنها تشعره بالخشوع وترغمه على تدبر القرءان.. وهذا لا شيء فيه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم- استمع لقراءة أبي موسى الأشعري، واستحسنها لِما أُوتِيَ من حسن صوتٍ. بل إنه لأمر مستحبُّ.. لكن، إذا كان الرجلُ صاحبنا لا يستمعُ إلا عبد الباسط ولا يستمعُ للقرءان إلا بصوته، ويزهد في سماع القرءان من غيره؛ وإن لم يجده لم يسمع القرءان؛ وتجده يطربُ لصوتِ عبد الباسط كما يطربُ للمطربين والمغنين؛ فذاك هو المهلكة الممحقة شهوة النفس!!. وشهوة النفس أنواع كثيرة منها حبُّ الرئاسة والرياء وحبُّ المدح... وكلُّ عمل هو بين طوامَّ خطيرة، كالرياء والشهوة الخفية والعجب... والشريك قد يكون البشر، والرياء والعمل لهم، لأجل المدح أو طلبا لرئاسة، وقد يكون أدقّ من ذلك وأخطر، وهو :أن تعمل العمل لحظ نفسك وشهوتها. والشيخ هنا ينبه إلى أن السائر إلى الله في بدايته؛ كثيرا ما تتخطفه السبل ويدخل عليه الشيطان في الزهد والتقلل والجلوس عن العمل... ونحن اليوم نجد كثيرا من الشباب في أول طريق الالتزام دائما يزهدون في دراستهم ظنا أنها عملٌ دنيوي محض، أويفرطون في أعمالهم؛ وهذا هو ما حذر منه الشيخ في النصف الأول من الحكمة.. وقد شاع بين العامة كلمة خطيرة : (الدعاة لا يكترثون للدراسة والعمل). و (فلان أصبح من الدعاة؟! وا أسفا! لقد فسدت دراسته). وماذلك إلا لما شاع في الملتزمين في بداياتِ توجههم إلى الله من توكل يفضي إلى التواكل، وهو ما حذر منه الشيخ في حكمته ونبه عليه. مع أن العمل والدراسة وكل الأعمال العاداتية تحول بالنية إلى عبادات، وقد كان الصحابة تجار نيات، يجعلون في العمل الواحد أكثر من نية؛ فيحصلون على أجر أكثر من عمل في عمل، وهذا ما لا يستطيعه كثيرٌ من البطَّالين.. وحذَّر في النصف الثاني من الحكمة من داء لا يقل خطورة عن الداء الأول؛ يتعرضُ له طائفة أخرى أعلى كعبا في العمل، وأسمى مقاما وأقدم سابقة من الطائفة الأولى، ألا وهو أن يقيمك الله مقامَ التجرد لعبادته من المشاغل؛ فتنحط نفسك إلى الشواغل لتسجنها بين العوائق والعلائق من ضربٍ في الأرض: تجارة؛ وتكاثرا في الأموال والأولاد... لقد تضرر حقلان عظيمان من حقول الدعوة بانحطاط همم أهلها، هما :العلم؛ والدعوة. فكم من عالم رزقه الله دون أخذٍ بظاهر الأسباب ومعتادها؛ تفرغ للعلم والتعليم ونفع الله به؛ انحطت همته فجأة، وركن إلى جمع المال وانشغل بالتجارة وغيرها من مناصبَ دنيوية محضة. وكذلك الدعاة، فكثيرٌ ممن فتح الله عليه في الدعوة وهدى به؛ تجده منشغلا عنها بأمورٍ ما خلق لها ولا خلقت له، من طلب للكسب. لا نلومهم لأنّ طلب الرزق من حله وجعله في محله حرامٌ، لا والله، ولكن، كما قال الشيخ :هو دليل على "انحطاط الهمة العلية". وطالما حذَّر أجلة علمائنا العاكفين في محاظرهم على الدرس والتدريس من فتنة الراتب والوظيفة والجاه التي فتن بها طلبة العلم اليوم، وقد بلغني أن الشيخ بدّاه -رحمه الله- أنه كان كثيرا ما يقول للأساتذة والموظفين : (ما ضركم شيء أكثر من هذا الراتبُ) وهو كلامٌ جيدٌ في بابه من عالم مربي زاهد، قطعا لا يحرَّمُ به ما أحلَّ الله من الرواتبِ؛ لكن، صحَّ عنده أنه أثر في الهمم والنيات سلبا؛ فتناقص عددُ الصديقين والربانيين بين أهل اليوم..!! انحطاطُ في الهمة لأنك خرجتَ من حيث تحسن؛ إلى ما لا تحسن، ومن التجارة مع الله إلى التجارة مع سواه. وليس بعد هذا في درك الخسة من مُستَفل!!. والتجردُ الحقُّ عند أهل الحقِّ، هو ما قال عنه الشيخُ ابن عجيبة: " هو ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله؛ وتجريد الباطن هو ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله؛ وتجريدهما هو إفراد القلب والقالب لله. فليس التَّقللُ والتقشف إذا لم يفضيا إلى حضور قلبك ومشاهدته لربه تجردا!! والزهد عملٌ قلبي باطني قبل أن يكون خارجيا ظاهريا!! وكم من متجردٍ لله محياه ومماته لرَبِّ العالمين؛ لبس لين الثياب وأكل طيب المأكل وجمع المال الكثير. عن َمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، يقُال : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْرَجُلِ الصَّالِحِ. صححه الألباني. وختاما، إذا حدثتك نفسك وقالت: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) . فقل لها : ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)). وقل : ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)). |