النَّفْسُ وَالنُّفُوسُ.. والفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الفِرَق!!./الأستاذ أحمدسالم ولد زياد |
السبت, 07 سبتمبر 2013 12:07 |
كنتُ بالأمسِ أنظر في ثلاث كتبٍ مختلفة، لا أقول اختلافا جذريا كليا؛ لأن الحق كله يخرج من مشكاة واحدة، وإنما نختلف نحنُ فتختلفُ رؤانا.. الكتبُ كانت : (مذكرات في منازل الصديقين والربانيين) لسعيد حوى؛ وكتاب (جدد حياتك) للدكتور محمد الغزالي؛ وكتاب (مهزلة العقل البشري) لدكتور علي الوردي. كان واضحا جدا الفرق بين الكتب الثلاثة، وإن كان كتاب الغزالي بدا كأنه واسطة بين طرفي النقيض: المذكرات؛ ومهزلة العقل.. ذلك لأن المذكرات كتابٌ تربوي، يتكلم وفق الفلسفة الإسلامية للتربية والتزكية، وكتابُ مهزلة العقل البشري كتابٌ في علم الإجتماع وفلسفة الاجتماع، التي –حسبَ رأيي-تجمعُ، وتستقرئ، وتلاحظ لتستنتج أحكاما أغلبية، توصل إلى فهم النفس وسلوكياتها الفردية والجمعية؛ أكثر من اهتمامها بعلاجها وتربيتها فرديا وجمعيا.. أما كتابُ جدد حياتك؛ فقد تلا قحت فيه عقول الشرق والغربِ، وتعاورته يدان ماهرتان جدا، هما :يد (العلَّامة) ديل كارينجي. (كما وصفه الشيخ الغزالي)؛ واللوذعي غذاء العقل؛ والقلب؛ والروح :محمد الغزالي. فكان الكتابُ ملتقى حضارات، وعصارة تجارب أمم، صاغه الغزالي بأسلوب بديع، فكان أروع من كتبِ التصوف؛ لأنه زاد عليها بتجارب وخبرات روّاد التنمية البشرية، وكان أحسن شكلا وأرقَّ أسلوبا، وأكمل مادة من كتب التنمية البشرية؛ لأن الغزالي حشد فيه من العقيدة والفقه والسلوك الإسلامي، ودعَّم كل ذلك بالآية والحديث وكلام السلف وأشعارهم، ونسقه الجميع بأسلوبه الأدبي الرائق الراقي..!!. فكانت فرصة لا تتكرر لأن يجدد الواحد منا حياته..!! راقتني الكتب الثلاثة؛ على دخل بَيِّنٍ في كتاب الوردي، فأنا قطعا لا أقره على البقية الباقية في نفسه من شيعيةٍ كانت بارزة في الكتاب، وإن بدت أكثر هدوءا من خطاب شيعة العصر والعصور السالفة.. وبديهي أن تبرد جذوة حماس الوردي الديني فلا يتطرفُ؛ فهو عالم اجتماع في الأصل؛ وقد تأثر جدّا بابن خلدون وعقلانيته، فظل مذبذبا بين المذهبين؛ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء..!!. وإن كان علي الوردي أتمُّ نظرة في علم الاجتماع بحكم تأخره عن ابن خلدون؛ إلا أن موسوعية ابن خلدون وعقله المبتكر مكناه من أن يرى الحقيقة والحق في كثير من الأمور التي اختلف فيها السنة والشيعة؛ بخلاف علي الوردي الذي لم يتحرر كلية من شيعيته التي أخرجه منها ميله نحو العلانية، ولن يستطيع عقلاني المكوث في ملة أسست على عاطفة حاقدة ساعة من وقت..!!. ويظل علي الوردي يمثل جيل رواد الترجمة، الذين نهلوا من علوم الغرب الجمة منبهرين بها وبالغرب نفسه؛ غير أن كل ذلك لم يُعمِ الوردي عن النهل من روافد ثقافته العربية والإسلامية العتيدة..! ما أجمل أن يختصر أحدٌ كتاب الوردي هذا أو يعتصره؛ فإن فيه كثير من عقل وعلم، قدما بلغة جزلة وأسلوبٍ أدبي جميل..!! ولعلي أوفق إلى مناقشة الوردي في بعض أفكاره التي لا أوافقه عليها، ليس لجاجا ولا جدالا.. كلا. إنما طلبا للدربة وبحثا عن ملكة النقاش العلمي الراقي..!!. فمناظرة المرء لهذا الرعيل من العظماء ومجاراته؛ تهبه من الخبرة والحنكة وسعة الإطلاع ما لا تمكنه منه الجامعاتُ ولا المكتبات..!!. وليس التطاولُ ما جعلني أردُّ على الرجل الرائد، فقد قدم إلى ما قدّم، وعاش عمرا طويلا من الجدل والنقاش والتكفير والتبديع.. وقد قيل أن طيف بن معطي زار العلامة ابن مالك، معاتبا له على قوله في ألفيته: (وتقتضي رضا بغير سخط ** فائقة ألفية اين معطي) (فائقة لها بألف بيتٍ**..) فانقطع ابن مالك ولم يكم البيت، فقال الشيخ ابن معط -رحمه الله- لمنافسه: (.. ** والحيُّ قدْ يغلبُ ألفَ ميتٍ) وسأظلُّ أحترمُ للرجل الرائد المشتركَ بيننا وأثمنه، كالإعجاب الكبير بالعلامة ابن خلدون ومنهجه، وحبّ الرجل وتعلقه باللغة العربية ، وسعيه الدائب إلى رؤية الحقِّ..!!. ** تكلم الدكتور علي الوردي في كتابه الماتع (مهزلة العقل البشري)عن نفسٍ بشرية أجاد وصفها وأجاد، بيد أنه أخطأ ككثير من علماء الاجتماع والعقلانيين حين وصف "نفسا" من النفوس على أنها "النفسُ" بكل عجرها وبجرها؛ سموها ودناءاها؛ وفجورها وتقواها.. إنَّنا –أيها العقلاء- بين خيارين؛ فإما أن نذعن للوحي ونؤمن أن الله خلق الإنسان وصوره فأحسن صوره , فألهمه فجوره وتقواه، وجعله كومة من متناقضات تمشي على قدمين، فيه من الخير ما يفوق الملائكة، وفيها من الشر ما يجعل الشيطان نفسه يصرخ ناكصا على عقبيه : ((إني أخاف الله رب العالمين))..!! ..وإما أن نقول بما قالت به الفلسفات المادية عن النشوء والإرتقاء؛ يُحتمُ علينا القولُ بها أن نعود إلى دراسة الحيوانات جميعا لنفهم ابن جنسها –زعموا- الإنسان.. لقد نزه الدكتور -رحمه الله- النحل من تكالب بني جنسنا على الرئاسة، وسعي البشر الحثيث خلف المصالح الشخصية والمنافع الذاتية، وهو تنزيه يحتاج منا دراسة متأنية مقارنة لنفهم أي الجنسين :النحل والبشر؛ نكص عن سنن الحيوانات التي جبلت عليها.. فإن كان الإنسان هو الناكص الحائل؛ فلابد أن نجد تبريرا يسكتُ تلك التساؤلات المتكاثرة تبحثُ عن إجابات، كأفراخ في عش؛ تملأ المكان ضجيجا، في انتظار لقيمات تنفثه الأم في حواصلها؛ تسد به الأفواه المفغورة.. وإما أن يكون النحل هو الحائد عن قويم سراط الحيوان السويِّ! ولا تظنّ أن في ذلك راحة من تلك الدراسة المعمقة المتقصية الباحثة عن إجابة مفحمة مسكة على نفس الأسئلة أو أزيد.. أعترفُ أني بذلتُ وقتا أكثر في دراسة الرجل وفهمه شخصه؛ كان الأجدر أن أبذله في دراسة الكتاب وما فيه من نظر ومباحث..!! فالعبرة بالقول لا بالقائل..!! معَ أن دراسة الكتابِ هي الأخرى طريقة لفهم ما يكتبون..!! وحسبَ ما فهمتُ من عالم الاجتماع العراقي؛ والمثقف الشيعي؛ المنبهر بالعلامة ابن خلدون وعلماء الاجتماع الغربيين؛ وحسبَ ما فهمتُ من كتابه (مهزلة العقل البشري) تحصلَ لدي ما يلي: "الدكتور الوردي مؤمنٌ بالله وأنه بارئ كلِّ شيء.. فحاشاه أن يؤمن بنظرية داروين". وعليه فإني أردُّ خطأه الذي أَزعمُ إلى كونه وصف نوعا واحدا من النفس ونظرَ إلى جانبٍ واحدٍ منها؛ فحملها عليه جميعا، وفي ذلك –لعمر الله- كل الزلل والخطأ.. ألسنا نعتقد-معاشرَ المؤمنين- وجوبا أن الله خلق النفس وسوّاها؛ فألهمها فجورها وتقواها؟ عندما تذهبُ إلى دولة ما لتدرس سمات شعبها الخَلقية وعاداتها الخُلقية؛ فلا يقبلُ منكَ أن تذهبَ إلى المستشفى لتصف مرضى ذلك الشعب على أنهم هم الشعبُ أجمعه وتفترض أن صفاتهم تنطبقُ على كل شعب ذلك البلد.. ولا يقبلُ منك عند العقلاء أن تذهبَ إلى حلبة المصارعة وميادين السباق؛ لتصف روادها من الرياضيين على أنهم العينة الكاشفة للسمات الخلقية والخلقية لذلك الشعب..!! كذلك هم أهل الدراسات اليوم؛ يبحثون في مرضى النفوس عن النفس بكل صورها، وهو خطأ وقع فيه الفلاسفة الطوبائيون الذين أرادوا النفس حكيمة لا تخطئ؛ فأخطأوا أشد الخطأ..!!. والنفس ليست هي تلك التي تكلم عنها الوردي؛ ولا تلك التي طمح إليها الفلاسفة القدماء. النفس بل النفس هي كلتا الحالتين المتناقضتين، المتباينتين، المتنافرتين..!!. هي كل ذلك العراك الناشئ بين قوى الشر والخير في حيز زمني ومكاني واحد، هو النفس!!. وليس يفهمها من يعتدُّ بالجولة والجولتين إنما هي حربٌ سجال؛ بين الضياء فينا والنور، يستمر إلى آخر لحظة لنا في هذه الحياة، والفوز فيه غالبا ما يكون باحتساب النقاط وليس بالضربة القاضية. إن النفس التي وصف الدكتور الوردي بدقة متناهية؛ ما هي إلا نفسٌ لم تذق مرارة الفطام، فشبت على حبّ الرضاع، شرهة لا تزدجر، طماعة لا ترعوي، نهمة فلا تشبع!! هي نفس مريضة، لا تعرف من الحق إلا ما أشربت من هواها.. لم تزك بدين ولا بخلق حميد.. فكيف نقول عنها أنها النفس ؟!. |