من روائع الأستاذ سيد قطب/د عبد الحليم عبد الحميد البر |
الجمعة, 11 أكتوبر 2013 19:45 |
(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ ِنِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَافَعَلُوه ُفَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) - الأنعام 112- (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) أي ذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء ,(فَذَرْهُمْ)أي فدعهم (وَمَا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون أي: دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم, فإن الله كافيك وناصرك عليهم . كذلك إنما جرى بقدر الله ; وفق مشيئته ولو شاء ربك ما فعلوه ولمضت مشيئته بغير هذا كله ; ولجرى قدره بغير هذا الذي كان, فليس شيء من هذا كله بالمصادفة, وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة, فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم... , إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله, ويتحقق بقدر الله, فإن المسلمين بغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض ; بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري, والقدرة التي وراءه . وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدوا ًشياطين الإنس والجن, ولقد كان الله سبحانه قادر اًلو شاء ألا يفعلوا شيئاً من هذا ألا يتمردوا ; و ألا يتمحضوا للشر ; وألا يعادوا الأنبياء ; وألا يؤذوا المؤمنين ; وألا يضلوا الناس عن سبيل الله , كان الله سبحانه قادراً أن يقهرهم قهراً على الهدى ; أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى ; أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به , ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار , وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله بالقدر الذي تقضي به مشيئته , و يجري به قدره , وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه ; كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه , فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله , (وَلَو ْشَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) . فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟ يخلص لنا ابتداء أن: الذين يقفون بالعداوة لكل نبي ; ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء, هم شياطين من الإنس ومن الجن , وأنهم يؤدون جميعاً- شياطين الإنس والجن – وظيفة واحدة , وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك, مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله . ويخلص لنا ثانياً أن: هؤلاء الشياطين لايفعلون شيئاً من هذا كله , ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم , إنما هم في قبضة الله , وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده , من تمحيص هؤلاء الأولياء , وتطهير قلوبهم , وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء . فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهما لابتلاء , وكف عنهم هؤلاء الأعداء , وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله , وآب أعداء الله بالضعف والخذلان ; وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم , ولو شاء الله ما فعلوه. ويخلص لنا ثالثا أن: حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا , فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة , وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان , فهو إن ما يبت لي أولياءه كذلك لينظرأيصبرون؟ أيثبتون على مامعهم من الحق , بين ما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله على السراء وعلى الضراء سواء, وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان . ويخلص لنا رابعا ًأن: الشياطين من الإنس والجن ما يستطيلون بقوة ذاتية لهم ; وما يملكون أن يتجاوزوا ماأذن الله به على أيديهم , والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر , وهو الذي يأذن , خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين ; مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدّعى. ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) يعني دعهم وافتراءهم , فأنا من ورائهم قادر على أخذهم , مدخر لهم جزاءهم , وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين وابتلاء المؤمنين: لقد قدر الله أن يكون هذا العداء , وأن يكون هذا الإيحاء , وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع لحكمة أخرى ( ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ) أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة , يحصرون همهم كله في الدنيا, وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي , وينالون بالأذى أتباع كل نبي , ويزين بعضهم لبعض القول والفعل , فيخضعون للشياطين معجبين بزخرفهم الباطل , معجبين بسلطانهم الخادع , ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد في ظل ذلك الإيحاء , وبسبب هذا الإصغاء , وهذا أمر أراده الله كذلك , وجرى به قدره , لما وراءه من التمحيص والتجربة , ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له ; ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس , ثم لتصلح الحياة بالدفع ; ويتميز الحق بالمفاصلة ; ويتمحض الخير بالصبر ; ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة , وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء , إنها مشيئة الله والله يفعل ما يشاء. والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية, و كل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ; ومشيئة الله المهيمنة , وقدره النافذ من ناحية ثالثة , هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة : إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون, شياطين الإنس والجن تتجمع في تعاون وتناسق , لإمضاء خطة مقررة هي : عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه . خطة مقررة فيها: وسائلها يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً , يمد بعضهم بعضا ًبوسائل الخداع والغواية ; وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا . وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله , إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم ; ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً , إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً , ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه , والمضي في المعركة معه طويلاً . ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً , إنه محاط به بمشيئة الله وقدره , لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره , ومن هنا يبدو هذا الكيد على ضخامته , وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه مقيدا ًمغلولاً , إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط , ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع , كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر , ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم ، كلا .... إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله , وقدرتهم محدودة بقدر الله , وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله في حدود الابتلاء , ومرد الأمر كله إلى الله . ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين, جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها . ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم, جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين , وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة , والقدر النافذ , وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود , وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أولا يريده الشياطين , وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق , بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم , أما عداوة الشياطين وكيد الشياطين فليدعوهما للمشيئة المحيطة , والقدر النافذ(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُم ْوَمَا يَفْتَرُونَ). |