خواطر في ذكرى الهجرة/سيد ولد عيسى
الثلاثاء, 05 نوفمبر 2013 21:28

سيدي محمد ولد أحمد عيسىسيدي محمد ولد أحمد عيسى

جاء الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمجتمعُ العربي الجاهلي في عزة نخوته وعبيته وجاهليته، وتعاليه بالأنساب والآباء، وحفاظه على الأنا الذاتي والشرف القومي العرقي، بل القبلي الأسري الضيق...

وجاء التشريع الإلهي يعالج تلك الطبيعة المنحرفة في الناس ويجسد في المؤمنين أخوة تتجاوز العرق واللون والقبيلة والعشيرة والتاريخ والجغرافيا.. لتوحد الناس على كلمة سواء.. ليس بتنظير ولا بفلسفة، وإنما بيوميات عملية، تزرع أخوة عميقة صامتة بين الناس تجعل أبا بكر يجود بماله لتخليص بلال وعمار وأضرابهما.. لا رغبة في ولاء، ولا سعيا إلى منفعة، وإنما رحمة بالمستضعفين وابتغاء للأجر من رب العالمين قبل كل ذلك...

"وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى..."

 

بدأ التغيير بالأنفس، فأزال أول ما أزال حب الأنا من الإنسان، ونقَص منسوب العظمة الشخصية في الإنسان لصالح عظمة الفكرة وجلال المبدأ.. وبدأ المجتمع المسلم يتعود على تحمل الأذى والصبر أمام البلاء...

حتى إذ لقن الدرس، وثقِف الحلم، وأتقن فن التعالي على الآلام، والتسامي على الذات.. صنعت له الأخوة الإسلامية نسبا غير نسبه الأصلي، وقبيلة غير قبيلته، وعشيرة غير عشيرته.. وبدأ يحس بنفسه منفصلا عن من كان يجهل بجهلهم، ويسفه بسفاهتهم.. وتخلى عن المدأ المعروف:

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد فأصبح راشدا مع كل راشد ولو بعُد، معرضا عن كل سفيه.. ولو قرُب ودنى...

ومع هذين العنصرين عنصر ثالث هو هون المال، واستصغار شأنه، واعتباره متاعا زائلا، لا ينبغي أن يكون أخذه واقتناؤه والاستمتاع به على حساب الأفكار، فبدأ من تعودوا الغارات على الناس وتحصيل المال عن طريقها يعفون حتى عن ما في أيدي أنفسهم، فيعطونه لله، ويشركون فيه إخوانهم من المؤمنين، ويتحملون ما يجدون فيه من مضايقات من إخوان النسب من المشركين.. أما الاستعفاف عما في أيدي المقربين والأدنين كالآباء والأمهات، فيحدث عنه حال مصعب ابن عمير خير حديث..

ثم جاء الاستعداد لبذل الدم غاليا رخيصا في سبيل الله، وكان شعار المرحلة أن "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة"، فلم يستفز المؤمنين اعتداء المعتدين، ولا استفزاز المستفزين، وأُغْمِدَ سيف عمر الذي كان جاهزا لمعانقة من يعاند فكرة من أفكاره مهما كانت صغيرة جزئية، وأُلجم سيف حمزة الأسد الهصور وهو يسمع الاعتداءات تتوالى على ابن أخيه، وقرة عينه وعين أبيه وأفضل الخلق طرا محمد صلى الله عليه وسلم، فظل مكتفيا بإرهاب الأعداء والمضايقين دون مساس بهم، ولا مدافعة ولا مراغمة...

وكانت التربية الإيمانية في تلك المرحلة تتجه كلها هذا الاتجاه، وتسلك هذا المسلك، وتشير إلى هذا آيات كثيرة من القرآن المكي، "وإذا مروا باللغو مروا كراما"، "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"، "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله.."، وبالمقابل تركز على البناء الذاتي للنفس المؤمنة، وصفات المؤمنين، وبيانها كما في خواتيم سورة الفرقان وفواتح سورة المؤمنين، وأواسطها، كما تذكر بقصص السابقين من المؤمنين المستضعفين، كقوم موسى، وأصحاب الأخدود...

وحين استسلمت النفوس لما لم يكن في طبعها واستجابت لداعي الصبر، وأمر الكف.. وأحسنت التآخي والتآزر، وعاشت الحقائق الإيمانية فانغرست فيها أيما انغراس.. جاء القرآن مشيرا إلى الرحيل، بل آمرا به؛ قل سيروا في الأرض، أفلم يسيروا في الأرض..

وليس السير في الأرض ومفارقة الوطن بالأمر الهين على العربي الذي كان يحمي فلوات لا سياج لها سوى أناه الشخصي، أو القبلي والأسري.. إن ترك الأرض لصعب جد صعب على من كان يثور لأتفه الأسباب ويقتل لأخف وأسخف الأمور...

لذلك كان التمهيد له طويلا.. ولكن الاستجابة له كانت عظيمة في النهاية..

فبدأ المؤمنون بترك الأرض، والتخلي عن الوطن، آخر النقاط الحمراء في حياة العربي الجاهلي الذي كان يحمي الفلاة.. بدءوا يتخلون عن أرض تجبى إليها ثمرات كل شيء، وهي الحرم الآمن الذي كانوا يفخرون به..

ومرت أرتال الموحدين واحدا بعد الآخر، قوافل تترى لا تستقر إلا حيث تجد العزة والكرامة وحرية التدين والاعتقاد...

وأمام هذا الجو الذي يطبعه طابعا التخلي (عن كل ما هو مألوف ومعهود ومعتاد) والتحلي بالفضائل وبأنواع منها أيضا غير مألوفة، كالصبر والعفة والإنصاف.. أمام هذا الجو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى أصعب الاحتمالات، وبقي بعد قومه المهاجرين، حتى يكون أكثر الناس أذى في سبيل ربه، حتى لا يكون "هرب" وترك أنصاره ومؤيديه تحت العذاب الأليم.. حتى يكون القدوة حقا في تحمل الأذى، والقدوة حقا في امتثال الأمر...

وحين جاء الأمر الإلهي بالهجرة، خرج وشعاره التحدي لللخوف، ودثاره الثقة بالله والأمل في نصره وتمكينه، يحدوه الشوق إلى أصحابه، وتسوقه الرغبة في نصرة الحق وضرب أروع مثال في تاريخ البشرية للتكيف مع الظروف..

خرج فكان خروجه عنوانا لحدث سمي بالهجرة أصبح فاصل بين بحرين لا يبغيان، بحر ما قبل الهجرة وبحر ما بعد الهجرة، بعلقمية ذاك وأجاجيته، وبعذوبة هذا وحلاوته...

وبذلك أعطى المهاجرون للمؤمنين درسا في التحمل والصبر، واتجهوا مع الأنصار إلى كتابة الدرس الثاني...

 

 

خواطر في ذكرى الهجرة/سيد ولد عيسى

السراج TV