الواجب أولاً(1)/د.عبد الحليم البر
الأحد, 24 نوفمبر 2013 21:54

altaltإنَّ من فضل الله على هذه الأمة أن تنتفض شعوبها وتتحرك في ثورات بيضاء؛ لتلج إلى عالم الحضارة والتنمية والتقدم، وهي بذلك تتخطى مرحلة "الوهن الحضاري" التي أخبر عنها الرسول العظيم بقوله: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم.....".

 وعلاج هذا الوهن لا يكون إلا :-

بإعادة بناء شخصية الإنسان, والارتقاء بها إلى مستوى الإنتاج وليس الاستهلاك .

والتركيز على :-

          -  إنسان الواجبات لا إنسان الحقوق..

          - إنسان البقاء والخلود بالعمل الجاد , لا إنسان الزوال والاستمتاع بالشهوات والاستهلاك،

          - الإنسان الذي يدرك مدلول قول الله تعالى:

 ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)﴾ (التوبة).

وما أشد حاجة الأمة والدعوات في هذه الظروف إلى الفرد الذي يؤدى ما عليه من واجبات , قبل أن يسأل عما له من حقوق , فإن الواجبات أكثر من الأوقات ,

يقول الإمام البنا في ذلك :-

   - إن العامل يعمل لأداء الواجب أولا , ثم للأجر الأخروي ثانيا , ثم للإفادة ثالثا ,

و هو إن عمل فقد أدى الواجب , و فاز بثواب الله ما في ذلك من شك , متى توفرت شروطه ,

 و بقيت الإفادة و أمرها إلى الله , فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات , على حين إنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير, و ضاع منه أجر الجهاد , و حرم الإفادة قطعا ,

 فأي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا ؟

و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في صراحة و وضوح في الآية الكريمة :

 (وَ إِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ , فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (الأعراف:164-165) ,    - إلى أي شيئ ندعو الناس - .

 

وقال كذلك :-

إن الدعوة واجبة علينا , معلقة بأعناقنا ,

- فإن ظفرنا منها بخير هذه الأمة وهدايتها , فذاك , وهو المأمول بحول الله وعونه .

- وإلا فحسبنا أن نكون قنطرة تعبر عليها فكرة الدعوة والإرشاد إلى من هم أقدر منا علي التنفيذ .

أو بعبارة أخرى :-

               - حسبنا أن نكون حلقة اتصال بين من تقدمونا , ومن سيأتون بعدنا .

- وإلا فحسبنا أن نعذر إلى الله , ونؤدي الأمانة و ونقوم بالواجب , والقيام بالواجب غرض يقصد لذاته أولا , ثم لفائدته ثانيا .

تلك ثلاث مراتب من أغراض الدعوة , أعلاها أولها , وما ذكرت الأخريين عن يأس من النجاح , أو شك في الفلاح والفوز , أو استبعاد للنصر , ولكن ليتضح لنا كيف أن الدعوة إلى الله علينا فريضة لا يخلصنا منها إلا الأداء , ولا يقبل فيها عذر ولا هوادة .

وذلك حتى يقوم كل فرد بواجبه المطلوب منه أولا قبل أن يطالب بحقه , حتي لا يظل الواجب مهملا , لا ينهض به أحد , ولا يستقر علي حال , إن طلبت الحقوق ولم تؤد الواجبات .

 

والناظر في السيرة النبوية

يرى ذلك الأمر واضحا جليا , فلو أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- وصحابته نظروا إلى حقوقهم قبل أداء واجباتهم ما وصلت إلىنا هذه الرسالة العظيمة .

 

وارجع إلى السيرة وانظر إلى :-

الإيذاء الذي تعرض له الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وما تعرض له عند ذهابه إلى الطائف وعودته منها , وهجرته من مكة إلى المدينة , والغزوات التي غزاها , وسيرته كلها .

وانظر إلى :-

موقف الحباب بن المنذر وتقديمه المشورة للرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر , وإلى عبدالله بن زيد الأنصاري حين رأى رؤيا الأذان ,  وسلمان الفارسي يوم الخندق , وحين قدم أبوبكر الصديق ماله كله , وقدم عمر نصف ماله , وجهز عثمان جيش العسرة , وغيرهم من الصحابة الكرام , الذين ما كانوا يقدمون طلب حق لهم على الواجب المطلوب منهم , هل كانوا بذلك يسألون حقوقا لهم  ؟ أم أنه الواجب المطلوب منهم , فقدموه طيبة بذلك نفوسهم , راضية به قلوبهم ؟

 فكان جزاؤهم أن رضي الله عنهم , وبشروا بالجنة وهم أحياء يعيشون بين الناس , وهكذا كان المصلحون دائما .

وقد رأينا في عصرنا الحالي الإمام البنا وقد ندب نفسه لأداء الواجب أولاً فترك :-

بعثة أتيحت له وكان أول دفعته , ووظيفة تدر عليه راتبا جيدا , ورضي براتب تقاعدي قليل , وأما بيته فلم يبت فيه طوال عشرين عاما هي عمر الدعوة إلا أياما قلائل , وانتقص من متعة عيشه .

 حتى لا يظن ظان أنه نظر إليها حين نظر إلى هداية الناس فكانت من جملة آماله , وحتى يستر هؤلاء الذين يريد هدايتهم بجهده كله في هدايتهم غير مذموم ولا منقوص ,لأنه قد شغله الواجب الذي غفل الناس عنه.

وليس معنى هذا أن نترك البيوت والوظائف (لأن الكمال في حق شخص ليس هو الأصل في المعاش)،  ولكن على الأقل إذا انتدبنا لواجب لا يتخلف عنه متخلف مهما كانت أعذاره , إلا لعذر قاهر .

وكان بإمكانه – رحمه الله – القيام بأعمال أخرى تدر عليه ربحا وافرا , وتجلب له الراحة ,

وعندما سئل عن عدم تأليفه الكتب ؟

 كان جوابه أن الإسلام في حاجة إلى تأليف الرجال , لا تأليف الكتب ,( فالواجب الآن هو أن تإلىف الرجال مقدم علي تأليف الكتب ).

وكان يقول :-

- إنني لا أؤلف كتبا يكون مصيرها تزيين الرفوف وأحشاء المكتبات , وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا , أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه ,

فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس , ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم , ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله , ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل ,

وهذا هو الواجب الذي قدمه على الأجر ,( وكان حقه أن يعيش عيشة تكافئ من عنده مثل مواهبه , لكنه الواجب أولا ).

الأستاذ سيد قطب

وهو ما جعل الأستاذ سيد قطب تأثرا بهذا المعنى على شيخوخته , وكامل علته – رحمه الله – وأدائه للواجب , لم يعتذر عنه ,

وذلك أنه دعي إلى تربية مجموعة من الشباب بعد أن خرج من السجن فلم يتخلف عن الواجب - والأعذار حاضرة , والتعلات قائمة - (كبر السن والشيخوخة والعلة الكاملة ) ,

وكان يعرف أنه :-

يواجه جاهلية شديدة البأس , صعبة المراس , ويقود فصيلا قليل العدد , إلا أنه جريئ الفؤاد , ومع ذلك رضي بعذابات النتائج , وكانت النتيجة أن يموت شنقا , وقد قدمت له البدائل لينجو .

تقول أخته حميدة قطب في مذكراتها :-

قلت له :- يقولون :-

 لو كتبت اعتذارا سيخفف الحكم عنك وعني ( وقد حكم عليها عشر سنوات ) , وكانا معا في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير , ولا يطلع عليهما إلا اللطيف الخبير , وذلك في الزنزانة في اللحظات الأخيرة قبل إعدامه .

فأجاب :-

 إن تنفيذ الحكم أجدى على الدعوة من تخفيفه ( الواجب يقتضي ذلك ) , وإن قدر الله مماتي فلعل الله يصنع بهذا القدر شيئا رائعا لهذا الدين , ثم إن لي هنا أصحابا أستحي من الله أن أنجو بنفسي وأدعهم (الواجب يقتضي ذلك أيضا ) ,

وقد قيل :-

إنه يجوز للإنسان أن يتعرض لما لا يحتمله في حالة الوقوف في وجه شيوع الظالمين , كسرا لجاه الظالمين , وتقوية لقلوب أهل الدين .

 

علي عزت بيجوفيتش

وكان الرئيس علي عزت بيجوفيتش قد حكم عليه بالسجن 14 سنة عام 1980م , وقد كان مستشارار قانونيا لجامعة سراييفو , وكان يعيش في رغد من العيش , حيث الفيلا الأنيقة , والعائلة الكريمة ( زوجة وبنتين وولد ) ,

كتب قائلا :-

كثيرا ما كنت أسأل نفسي وأنا بين جمهور من المجرمين  ما الذي يدفعني لتحمل ذلك ؟

والجواب :-

شيئ واحد , لكنه يفي , إنه يجب علي ذلك .

وبذلك تصان طاقة الأمة من أن تبدد في غير طائل , أو تسفك في غير موجب , وذلك حين يقدم الأجر علي الواجب .

حقي وحقك

عاش الإخوان هذا المعنى  , إذ نقل لهم نقل الكافة عن الكافة من جماهير الدعاة انتهاءاً لإمام من أئمة الهدى , إذ رباهم على أداء الواجب أولا قبل كل شيء , وتشربت قلوبهم وأجسادهم هذا المعنى , فظهرت على ملامحهم وجوارحهم ملامح السكينة الإيمانية , وعلى سلوكهم التغافر , والحرص على وحدة الصف وسلامته من كل ثلمة ,

واستمرت القافلة الإيمانية وحاديها يحدو حداء الأخوة , حتى ظهر جيل جديد , ولغة جديدة غريبة المفردات لم يألفها جيل الصالحين المصلحين , ولعله تأثر كثيرا بالأحداث الجارية الآن .

فبدأنا نسمع :-

 - حقي وحقك ....., أريد أن آخذ حقي ......, اللائحة تقول كذا ....... ,

- أريد تحقيقا في.. , فلان فيه كذا وكذا ... ( كثير من الغيبة والنميمة , وقليل من حفظ غيبة إخوانه ),

- إخواننا في القيادة لا يحسون بنا وبمشاكلنا ........,

- وبدأنا نسمع المطالبة بحقوق كثيرة , والتغاضي عن أداء الواجب المطلوب للوصول إلى هذه الحقوق , فلماذا ؟؟؟

الفرق أخي الحبيب :-

- أن الجيل الأول قد امتزجت فيه أركان البيعة مع الحركة لهذا الدين , والإنشغال بالدعوة والسعي لها ,

-  مؤديا الواجب المطلوب منه كما ينبغي , ذاهلا عن حاجته الشخصية وحقوقه ,

-  فصار فردا ربانيا :-

          -  إذا نطق فللدعوة , وإذا سكت فلها , وإذا قام أو قعد فلها ,

          -  فلا يتكلم إلا فيها , ولا يفكر إلا فيها , ولا يحلم إلا بها ,

          - ولا تمتلئ عيناه بالدمع إلا لأجلها , ( وهذا هو الواجب ) ,

فهو كما وصفه الأستاذ مصطفى مشهور بقوله :-

                                     -  رجلا تتحرك الدعوة في أعصابه ,

ووصفه الأستاذ الراشد بقوله:-

      -  نريد رجلا له قميص من زر واحد , إذا قيل له قدم صدرك للرصاص قطع الزر ,

      - لا الذي يرتدي قميصا له عشرين زرارا , فيظل يفتح زرا تلو الآخر , وهو يحسب الربح والخسارة ,

 حتي إذا انتهى منها جميعا قال :

                      - قد تركت مفتاح صدري بالبيت , فيذهب ليحضره فيجد الزوجة والأولاد فيقعد }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14){- التغابن –

فاعلم أن :-

      - كل حق يقابله واجب , وإن ضياع الحق ينتج عن التقصير في الواجب ,

      - ولو أدي كل الناس واجباتهم كما ينبغي , لحصلوا على حقوقهم كاملة غير منقوصة ,

      - إن حقي واجب على غيري , وحق غيري واجب علي ,

                  - فحق الوالد واجب علي الولد , وحق الولد واجب علي الوالد ,

                  - وحق الأستاذ واجب على التلميذ , وحق التلميذ واجب على الأستاذ ,

                  - وحق الشبخ واجب على المريد , وحق المريد واجب على الشيخ ,

                  - وحق القائد واجب على الجندي , وحق الجندي واجب على القائد ,

                  - وحق الجماعة واجب على الفرد , وحق الفرد واجب على الجماعة

                  -  فأد الواجب الذي عليك أولا , يصلك الحق الذي لك ,

 - من أصعب المهام وأوجب الواجبات :-

 تعريف الناس بدعوتنا وجلال رسالتنا؛ أي تعاليم ديننا الصحيحة السمحة،

وأن نطلع بها علي الناس جميعا صفحة ناصعة لا شية فيها , ولا تحمل إلا الخير للناس عامة , وإلى الأخوة العريقة الخالصة .

إننا بذلك ننصف ديننا ودعوتنا , وننصف أنفسنا , ونؤدي بعضا من حقوق الرسالة العظمى التي جعلها الله رحمة للعالمين .

وأهم من الشرح تقديم القدوة ؛ لأن "حال رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل لرجل"؛ لتصحيح ما روَّجه الإعلام الفاسد والنظام البائد عن هذه الدعوة الطيبة الطاهرة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ )(يوسف: من الآية 108)(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: من الآية 88).

 

تمثل هذا المعنى هذا الجيل الفريد حتى صفت نفوسهم , وخلصوا من حظ نفوسهم , ومن كدر الدنيا والهم بها , وانشغلوا بالآخرة وتحصيلها ,  وعرفوا أن الطريق لا بد أن يمر عبر أداء الواجب المطلوب أولا قبل أي شيء , فأدى ذلك إلى صفاء القلوب , واجتماع الأرواح , ووحدة الهدف , وذوبان الفرد في إخوانه وجماعته ( يوم أن تتصور أن لك ذاتا خارج الجماعة فهذا هو المنزلق , بمعنى  أن تنكر ذاتك داخل الجماعة , وأن تنكر رأيك داخل الجماعة ) , فرددوا بقلوبهم قبل ألسنتهم عهدا يوميا متكررا عبر الزمن :-

اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت علي محبتك , والتقت علي طاعتك , وتوحدت علي دعوتك , وتعاهدت علي نصرة شريعتك , فوثق اللهم رابطتها , وأدم ودها , واهدها سبلها ,واملأها بنورك الذي لا يخبو , واشرح صدورها بفيض الإيمان بك , وجميل التوكل عليك ,

وأحيها بمعرفتك , وأمتها علي الشهادة في سبيلك , إنك نعم المولي ونعم النصير ,اللهم آمين .

وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

ينابيع 

الواجب أولاً(1)/د.عبد الحليم البر

السراج TV