في رحاب النبوة.. قبس من الهدى/د. الشيخ التراد ولد محمدو |
الجمعة, 17 يناير 2014 23:19 |
سأحاول في هذه الإطلالة نبش ذاكرة التاريخ واستدعاء رموزه لأقودكم في رحلة استكشافية وسيرية في صفحات ذلك التاريخ المشرق لأمتنا الإسلامية، عبر عظماء قادوا ثورة تحرير الإنسانية، من رجس الاستعباد إلى عدالة رب العباد، فضربوا موعدهم مع التاريخ فكانوا في صفحاته الأولى، حديثا سيكون في حلقاته الأولى بدون شك مع رسول الإنسانية وقائدها الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، في سلسلة ستطوف في شمائله في اقتفاء أثري لخطى حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، لتختم بنماذج حية تحكي معالم تلك الشمائل ومظاهر ذلك التحرير الإنساني، من صحابته المستضعفين الذين لحقوا بركب الدعوة في أيامها الأولى، فأعزهم الله بالإسلام بعد قهر مرير مارسته جاهلية ما قبل فجر الإسلام. ولد الهدى... ولد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول فكان مولده إيذانا بظهور مخلص البشرية، ومفخرتها ورائده مسيرتها نحو التحرر، حيث شهدت الجزيرة العربية ساعة مولده أحداثا حيرت المنجمين وأذهلتهم روتها كتب السير، وتداولتها كتب التاريخ الإسلامي، وخلدتها دووين العرب الشعرية: ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء وقد عاش محمد بن عبد الله صلوات الله عليه طيلة مرحلة ما قبل البعثة أمورا جعلته محط اهتمام قريش والعرب حينها، بدءا بساعة المولد مرورا برحلة الرضاع إلى مضارب بني سعد وانتهاء بخلوة الفتى العابد في غار حراء ، أمور كلها منحت الفتى الهاشمي لقب الأمين على الرغم من حداثة سنه، فكانت قريش لا ترفض له حديثا حينها، وقد جاء حدث إعادة بناء الكعبة ووضع "الحجر الأساس" امتحانا للعرب ولقريش وللسلم الأهلي آنذاك، فقد كادت العرب تشهد حربا ضروسا، ربما تعصف بكيانهم لولا ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللحظة المناسبة، وتسليم القوم لمبدء التحكيم بعد ظهوره وهم يصرخون بحناجرهم هذا الأمين محمد، في اعتراف علني بمكانة الرجل وعدالته في الحكم بين المختلفين والمتخاصمين، وبذكاء القائد وفطنة الحكيم أمر برداء وضع فيه الحجر ودعا القوم إلى أن تأخذ كل قبيلة جانبا منه ويضعون مجتمعين الحجر الأسود، منهيا بذلك خلافات بني عمه بطريقة ارتضاها الجميع. رسول الإنسانية ..رحمة مهداة: ولما ابتعثه الله للبشرية ليخرجها من الظلمات إلى النور، بدأ الرسول صلى عليه وسلم رحلة الدعوة إلى الله في قومه أنذر عشيرته الأقربين، فقد وقف فيهم ذات يوم على جبل الصفا بعد أن جمعهم وصرخ فيه إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ولم يثني النبي صلى الله عليه وسلم عن رسالته ما تعرض له من إهانات من قريش بعدها، بل صار يتحسس فرادى القوم ويدعوهم إلى خلاصهم وترك جاهليتهم، فآمن به من سماهم القرآن بالسابقين الأولين وكان من بينهم ما عرف بالمستضعفين من أمثال بلال بن رباح وعمار بن ياسر وخباب بن الأرت، وغيرهم ممن وصفتهم قريش ببسطاء القوم سخرية من أتباعه صلى الله عليه وسلم، تماما كعادة الدعوات الصادقة التي يحتمي بها المضطهدون ويتنكر لها المستكبرون، وهم يقولون" وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا"، أنومن لك واتبعك الأرذلون"!! وقد حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل رسالة السلام والعدل إلى خارج مكة فاتجه إلى الطائف بحثا عن دار أمان يلجأ إليها مستضعفو مكة من صحابته، فكان قوم الطائف أشد عنادا للدعوة وإنكارا للرسالة المحمدية، وفي طريقه إلى مكة عائدا من رحلة الطائف جاءته رسل الملائكة تعرض بين يديه خيارات تقود إلى هلاك القوم، فقال كلمته الخالدة المشفقة على أمته" بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا"، وقد ظل هاجس العطف على مستضعفي مكة وما يعانونه من ظلم محركا لمحرر الإنسانية بحثا عن مكان آمن تهوى إليه أفئدتهم، فأشار إليهم ببصيرة القائد بالهجرة الأولى نحو الحبشة معللا ذلك بالقول "إن بها ملكا لا يظلم عنده"، في تقدير حضاري لخاصية في ملك لما يشهر إسلامه بعد، وربما تنبأ بما تشهده الحبشة لاحقا، تماما كحنينه صلى الله عليه وسلم إلى حلف الفضول في الجاهلية المنعقد لدفع المظالم ونصرة المظلوم "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت". وقد كان لتلك الشمائل الخالدة والمظاهر الإنسانية لمنقذي البشرية تخليدا في آي وسور القرآن الكريم فتوالت الآيات المبينة لتلك الشمائل والمحصنة للرسول الأعظم، من ذلك قوله تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم"، وقوله "وكان بالمؤمنين رحيما"، وقوله "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، بل ذكّرت الآيات الإنسانية جمعاء بالمعية الإلهية التي تكلأ رسول الأمة "والله يعصمك من الناس" ورسالته "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" وأكثر من ذلك "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر..." وكأن المولى عز وجل أراد من وراء التخليد القرآني لشمائل رسوله عليه الصلاة والسلام أن يجيب على شبهات وأسئلة تتجدد زمانيا ومكانيا بما هو صالح لكل زمان ومكان "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". يتواصل..
|