لن يضروكم إلا أذى/سيد ولد عيسى |
الثلاثاء, 11 فبراير 2014 01:31 |
جاءت هذه الآية مثبتة نافية في نفس الوقت، مثبتة الضرر والأذى ولحاقهما بالمؤمنين جراء حسد وحقد وكيد عدوهم الذين أوتوا الكتاب من قبلهم.. نافية أن يعدو ذلك الضرر قدره، أو يتجاوز مكانه، إنه ضرر مقتصر على الأذى.. لا يستطيع أن يعدو ذلك المكان ولا أن يتجاوز ذك الحد. ولو حاول أهل الكتاب التعمق في الإضرار بالمؤمنين، والتوغل في أعراضهم وأموالهم ونفوسهم، والغول عليهم بالظهير المادي والمعنوي، فأعلنوا الحرب وشرعوا فيها لولوا الأدبار ثم لا ينصرون. وهذا الخبر ورد في سياق خاص أمرنا الله فيه بالاتحاد والاتفاق والاعتصام بحبله، والتمسك بشرعه، مذكرا إيانا بما كنا عليه قبل الإيمان من هلاك وشقاق وشقاوة، كادت أن تقذفنا في نار نحن على شفاها لولا فضل الله ورحمته.. ثم يرتب على ذلك أمرا جازما واضحا صريحا، بإخراج طائفة من المؤمنين آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر يصفها بالفلاح. ثم يحدثنا عن الأمم السابقة، (واليهود منهم بشكل خاص) وكيف تعاملت مع كتبها وكيف اختلفت رغم وضوح الكتاب، مهددا إياهم بسوء العاقبة ووبال المصير. ثم يبين خسارتهم في الآخرة، وانقلاب ألوانهم كما قلبوا الموازين؛ إذ الأصل أن يكون الاختلاف قائما فإذا جاءت البينات زال، أما أن يكون العكس، فتلك الطامة الكبرى.. ففي سياق كهذا يأتي الخبر "لن يضروكم إلا أذى" ملفتا إلى حقيقة اليهود، وما تحلت به نفوسهم من حقد وحسد وكيد ومكر لا يحيق إلا بهم، ولا ينال منه المؤمنون إلا ما يترتب عليه من أجر ومثوبة. ولسائل أن يسأل: ما سر تفوق اليهود علينا وضعفنا وهواننا وخورنا أمامهم؟. ويشهد لسؤاله الواقع الذي نعيشه الذي تغلب فيه من ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، ومن هم أجبن خلق الله.. لكن العارف بصدق الكتاب يدرك أن المسلمين لم يقاتلوا اليهود من حيثية إيمانية، ولو تم ذلك لانتصروا عليهم أول الأمر، لكن أعداء الأمة من منافقين وكافرين، في الداخل والخارج، وشياطينها من إنس وجن اجتالوا المؤمنين عن معنى الإيمان في الصراع وصرفوه إلى قتال باسم القومية أو باسم الوطنية، وأمثالها من الأوثان التي لا تقدم ولا تؤخر ولا تؤثر في الصراع، إلا إذا كانت تابعة للأصل المهيمن "الإيمان". ومتى عادت الأمة إلى دينها ولجأت إلى ربها نصرها على عدوها.. فحقت كلمته على الكافرين قتلة الرسل والأنبياء بالخزي والهزيمة. ينضاف إلى هذا السبب سبب آخر، هو أن اليهود أخذوا بحبل من الناس متين، فتمسكوا به، وجعلوه حاجزا بينهم وبين ما يكرهون، ولو قطع هذا الحبل وفككت أجزاؤه ووحداته لهان اجتثاثهم من الأرض الطاهرة.. وهذه الكلمات القرآنية، تبعث في المؤمن العزة بدينة وتساعده على التمسك بكتابه، فهي: 1- تبين حقيقة ثابتة راسخة لا تتبدل ولا تتغير مفادها أن اليهود سيسعون ما داموا موجودين في إلحاق الضرر بالمؤمنين، لن يدخروا في ذلك جهدا ولن يبخلوا فيه بوسيلة من الوسائل.. 2- أن على المؤمنين إدراك هذه الحقيقة والتعامل معها بحزم وقوة، لا يتجاوزان إلى الخوف الزائد، أو الظلم والاعتداء، فـرغم سوء اليهود "منهم المؤمنون"، وإن لم يكونوا أكثرية بل "أكثرهم الفاسقون". 3- أن الضرر لن يعدو قدره ولن يتجاوز حدوده، فلا داعي للخوف ولا للانهزام أمام شر مستطير لا يعرف التوقف، ولا الانقطاع.. بل الأولى الثقة في الله، والاعتماد عليه، والمواجهة. 4- أن من يسعى في إلحاق الضرر بك، ويواصل ليله بنهاره سعيا في ذلك، سعي إفساد وظلم وجور وجهل وكفر وحسد، لا بد أن يواجه بسلاح مثل السلاح الذي يستعمله، وأول سلاح يليق بهذا المكر هو دوام الحذر وأخذ الحيطة، والترقب والانتظار ومواجهة أي خطر مهما كانت قلته قبل أن يستفحل ويعم أذاه، أو يتحول إلى صراع وحرب. 5- أن المواجهة وإن كان من المحتمل أن تؤدي في بعض الأحيان إلى حرب ليست بذات خطورة، بل النتيجة محسومة، هي "يولوكم الأدبار"، وهي كناية بليغة عن الخوف والخور وانهيار المعنويات، يساعد المؤمنين في التمكن من العدو وضربه من القفا اقتداء بالملائكة "فاضربوا فوق الأعناق". ويعبر القرآن بعد ذكر تولية الأدبار بـ: "ثم" للدلالة على أن إعادة الكرة من اليهود على المؤمنين لا يغير النتيجة، ولا يؤثر في المعادلة، بل مهما كان التراخي الزماني، والاستعداد اليهودي ستكون النتيجة هزيمة اليهود ما دام الإيمان فعالا في نفوس المؤمنين. وصدق الله العظيم الذي يثبت التاريخ صدق كتابه، وعلمه بخلقه وبالسنن التي أجرى عليها كونه، والطبيعة التي فطره عليها، وفطر عليها الناس أجمعين، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
|