تفسير آية الطاعة/إخليهن ولد الرجل
الاثنين, 07 أبريل 2014 16:48

altalt﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾ (سورة النساء : 58/59).

***

تتضمن الآيتان الكريمتان قضيتان من أهم القضايا التي بنيت عليها "مسألة الحكم في الإسلام"، وثار بسببهما الجدل والنقاش بين العلماء والمفكرين، وخصوصا القضية الأخيرة منهما، فقد سال في نقاشها حبر كثير، وشغلت الكثير من الجهد والوقت !!

 هاتان القضيتان هما : مسؤولية الحاكم المسلم، ومسؤولية الرعية. أو إن شئت قل العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

مسؤولية الحاكم المسلم:

ففي الآية الأولى يتجه الخطاب نحو الحاكم المسلم مذكرا له بمسؤلياته، مبرزا لها في مسألتين أساسيتين هما : "أداء الأمانة"، و"الحكم بالعدل" : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). ورغم أن الآية عامة في كل مسلم، إلا أن الخطاب فيها متجه بالأساس إلى ولاة الأمور([1]).

و"أداء الأمانة" يشمل أول ما يشمل تطبيق شرع الله، والوقوف عند حدوده، ومن هنا فقد عرف الفقهاء "ولاية الأمر" بأنها (خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به)([2]).

ومما يدخل تحت هذا المفهوم (أداء الأمانة) أيضا، مشاورة أهل الرأي، والنصح للمسلمين، وقد ذكر الإمام المفسر عبد الحق بن عطية رحمه الله أن (الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب)([3]).

أما المسؤولية الثانية من مسؤوليات الحاكم المسلم فهي الحكم بالعدل : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، والعدل هو الانصاف والمساواة، وهو "أساس الملك" كما قيل، وفي الحديث (ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولا يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور)([4]).

هذه إذن هي مسؤولية الحاكم المسلم، (أداء الأمانة) و(الحكم بالعدل). فما هي مسؤولية المحكومين (الرعية)؟

مسؤولية الرعية:

إذا قام الحاكم بواجباته، وأدى الذي عليه، اتجه الخطاب إلى المحكومين، آمرا إياهم بتحمل مسؤولياتهم في السمع والطاعة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

وقد تعزز هذا الأمر بأحاديث نبوية صريحة نذكر منها : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (‏مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي).‏

إنما الطاعة في المعروف:

وستبقى هذه الطاعة، مقيدة بالمعروف، وبما ليس معصية لله، وفي الحديث (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية عند الإمام أحمد (1065): (لا طاعة لبشر في معصية الله)، وفي رواية أخرى له أيضا (1095): (لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل).

وفي الصحيحين : (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).

حكم طاعة الحاكم الفاسق:

أما إذا أخل الحاكم بواجباته، بأن فرط في حقوق الرعية، واستباح المال العام، وضيع مصالح الأمة، فإن سياق الآية يدل على أنه لا طاعة له، لأن الآية إنما أمرت بطاعة من أدى الأمانة وحكم بالعدل.  فيحتاج من فرط في أمانته ولم يحكم بالعدل إلى دليل يثبت له وجوب الطاعة !! وهو غير موجود.

بل إن النصوص وردت تنهى عن طاعة من عصى الله وخرج أعلى أحكامه، يقول الله عز وجل: ﴿ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون﴾ (الشعراء : 151/152)، ويقول تبارك وتعالى: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا﴾ (الكهف : 28)، ويقول عز وجل: ﴿ولا تطع الكافرين والمنافقين﴾ (الأحزاب : 1)، ويقول تبارك وتعالى: ﴿ولا تطع منهم آثما أو كفورا﴾ (الإنسان :24). 

وقد تعززت هذه النظرة بما جاء في خطاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند توليه الخلافة : (...أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)([5]).

وهذا ما دفع الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله إلى الجزم بأن طاعة الأمراء والسلاطين في عصره (غير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم)([6]).

وقد تابعه في هذه النظرة الفقهية الإمام أبو محمد بن حزم([7])، والعلامة جار الله الزمخشري([8])،والإمام البيضاوي([9])، والإمام ابن خويز منداد المالكي([10])، الذي نقل عنه القرطبي قوله: (إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم).

حديث (إلا أن تروا كفرا بواحا):

وأما حديث عبادة بن الصامت – الذي رواه البخاري ومسلم- : (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان).

فالجواب عليه من أربعة وجوه:

الوجه الأول : أن الحديث يتحدث عن "الخروج المسلح"(وأن لا ننازع الأمر أهله) ونحن نتحدث عن "عن الخروج عن الطاعة" وهو لا يستلزم بالضرورة الخروج المسلح، ولا المنابذة بالسيف، بل هو أشبه بالعصيان المدني والاحتجاج السلمي.

الوجه الثاني : أن الحديث معارضٌ بنصوص القرآن الصريحة التي قدمنا، وبما هو ثابت عن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فيلزمنا الجمع أو الترجيح، والجمع هنا ممكن، فلزم أن يصار إليه.

وبيانه في الوجه الثالث : وهوأن الكفر في نصوص الشرع يرد بمعنى الخروج من الملة، ويرد بمعنى المعصية، وتفسير لفظ (الكفر) في الحديث على المعنى الأخير هو الأليق للجمع بينه وبين النصوص الأخرى، وقد فسره بهذا الوجه بعض كبار العلماء.

 قال الإمام النووي رحمه الله: (المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم )([11]).

ويعضد هذا التأويل لفظ رواية الإمام أحمد (ما لم يأمروك بإثم بواحا)([12])، وكذلك ما رواه الإمام أحمد أيضا (سيلي أموركم من بعدي رجال يُعَرِّفُونَكُمْ ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله)، وفي لفظ ابن أبي شيبة (فليس لأولئك عليكم طاعة)([13]).

الوجه الرابع : هو أن الحديث إنما نهى عن منازعة أهل الأمر (وأن لا ننازع الأمر أهله)، و"أهل الأمر" هم "أمراء الحق"(حسب تعبير الزمخشري) الذين انعقدت لهم بيعة شرعية، وتوفرت فيهم شروط العدالة والأمانة والكفاءة والعلم([14]).

وليس كل من وصل إلى سدة الحكم، أيا يكن! وبأي طريقة كانت! وصار حاكما في الأمر الواقع يصير "ولي الأمر" بالمفهوم الشرعي، بل إن حديث أشراط الساعة يدل على أن من علامات الساعة توسيد الأمر إلى غير أهله (وهم الذين يضيعون الأمانة، ولا يحكمون بالعدل)، روى البخاري عن أبي هريرة أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فقال: (فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله...).

وخلاصة الأمر أن الطاعة واجبة للحكام الذين يؤدون الأمانة ويحكمون بالعدل، في حدود المعروف، غير واجبة بل غير جائزة لمن يعطل أداء الأمانة أو يحكم بالظلم والجور. والله أعلم.

 

 

 

[1])البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/220)

[2])الماوردي، الأحكام السلطانية/3

[3])الإمام ابن عطية، المحرر الوجيز (2/35)

[4])رواه أحمد (9204)، والبيهقي في الكبرى (5551)، والدارمي (2515)، وسعيد بن منصور (1/87)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2621)

[5])رواه عبد الرزاق في المصنف (20702)، وابن كثير في البداية والنهاية (5/286)

[6])الرازي، مفاتيح علوم الغيب (10/114)

[7])ابن حزم، الفصل في الملل والنحل (4/84)

[8]) الزمخشري، الكشاف (1/424)

[9])  البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/220)

[10])القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (5/259)

[11])الشوكاني، نيل الأوطار (7/175)

[12])مسند لإمام أحمد (22737)

[13])المصنف لابن أبي شيبة (38876)

[14])الماوردي، الأحكام السلطانية/ 4 و5

تفسير آية الطاعة/إخليهن ولد الرجل

السراج TV