..كأنني أعيش زمن الصحابة/سلمى أحمد الأعمى
الأربعاء, 22 يناير 2014 16:35

altaltبعد أيام من مجيئي إلى الولايات المتحدة الامريكية، امتطينا -مواطنتي الصديقة وأنا- متن حافلة مترو للذهاب إلى السوق، والبحث عن بعض المراكز الثقافية الاسلامية. بالصف المقابل لنا في الحافلة.

كانت تجلس فتاة شقراء، عشرينية، في أناقة و رشاقة نادرتين، لدرجة أنني ظننتها ما وضعت الغطاء على رأسها الا لتتقي قساوة البرد..!!.

كانت ترمقنا وترسم على وجهها ابتسامة وديعة، ودودة، فبادلتها الابتسامة مجاملة ، و لكن الابتسامات تكررت بإصرار، ليعقبها سؤال بإنجليزية صرفة، تعكس جذورها الامريكية القحة، قالت: - هل انت مسلمة؟ أو هل أنتما مسلمتان؟ (فضمير المخاطب في اللغة الانجليزية لا يفرق بين المفرد والمثنى).

ابتسمت بدوري و رددت: -نعم. هل تعرفين شيئا عن الإسلام؟ - أنا مسلمة.. لقد تخليت عن المسيحية منذ ثلاثة أشهر واعتنقت الإسلام . علقت في دهشة واعتزاز: - الحمد لله.. أنا سعيدة أن الدين الإسلامي زيد بإنسانية ودودة مثلك.

- شكرا جزيلا أختي.. - أرجو الا تكون قد واجهتك صعوبات في تبديل دينك من المسيحية الى الإسلام.

- لا، "الحمد لله" ( بلكنة) أنا الآن اأسعد وأكثر تصالحا مع نفسي، أمّا أسرتي فقد أخبرتهم، والدي لا يهتم أما والدتي فقد طلبت مني أن اتخذ القرار الصحيح. قلت: - انت تعيشين مع اهلك؟ - لا، هم يعيشون في فلوريدا، وأنا أعيش هنا، أتقاسم إيجار البيت مع صديقتي المسيحية .

- ماذا عنها هي، صديقتك، أتمنى يكون سكنك معها مريحا لك. - بالتأكيد، هي إنسانة رائعة. - أقصد.. بعد إسلامك!.

- أجل.. أجل.. هي تحترمني وتحترم قراراتي، و هذا لا يؤثر على صداقتنا.

توقف "المترو" وأخبرتها أنني سأنزل في المحطة الموالية. فسألتني:

- هل تتكلمين العربية؟

قلتُ باعتزاز: -نعم، العربية هي لغتي الأم.

- أنا أسكن قريبا من مدرسة "الهدى"، هل تعرفينها؟

- لا، انا لم امض هنا أسبوعين بعد.. (مبتسمة)

- من اين أتيت؟ - من موريتانيا

- هذا بلدك؟ -نعم. -هو في جزر موريس يوس او في الشرق الأوسط؟ -لا هذا و لا ذاك.. انه بلد في أفريقيا و اسمه الكامل: " الجمهورية الاسلامية الموريتانية" لأن الشعب كله يدين بالإسلام و ليست هناك ديانات أخرى مصرح بها.

- ما شاء الله (بلكنة) ثم عادت الى الحديث عن المدرسة. - إنها مدرسة إسلامية يديرها بعض الأخوة، جلهم باكستانيون، هي معهد إسلامي به مكتبة إسلامية و سوق وقاعة مؤتمرات. وأنا حصلت على تسجيل فيها لدراسة اللغة العربية. والآن عندي امتحان في معاني بعض الكلمات القرءانية و دلالات آياتها.

-لا..! والله إنك لموفقة.. أتدرين أننا نبحث عن مركز ثقافي إسلامي؟ -الحمد لله.. يمكنني ان أعطيك عنوان ورقم هاتف مدرسة الهدى.

و بسرعة، اخرجتُ كراسة كتب عليها: " و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" وسألتني ما اذا كان بإمكاني قراءة الجملة و شرح كلماتها بالانجليزية، ففعلت. و كانت تردد معي بلكنة واضحة. كما أنها كانت تكرر بإصرار :" كما ربياني صغيرا" و عندما سألتها عن سبب التكرار، قالت لي :إن تربية طفل صغير تتطلب مجهودا جبارا، والكثير من الصبر، ولربما، لهذا السبب أكد الاسلام على بر الوالدين. ابتسمتُ ابتسامة عريضة - هذه المرة- تعبيرا عن إعجابي بتحليلها الذي بدا لي بسيطا و ذكيا، وأردفت:

- هذا نموذج واحد فقط من حكم وإنصاف الإسلام. أتمنى ان تتاح لك الفرصة للاطلاع على النماذج الاخرى و تعلمها واستيعابها. فردت بحميمية:

- سوف تعلمِينيها.

- لا مانع عندي أبدا.. يشرفني ذلك.

- أوه .. نسيت ان اقدم لك نفسي. انا اسمي جانيت و يمكنك ان تلقبيني "جيني". أعمل في مركز للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.

عندها تبادر الى ذهني تبرير تقييمها للمجهود التربوي!!.

- سلمى، طالبة- مستقبلا-.

- لقد تشرفت بالتعرف عليك

- الشرف كله لي.. استعدينا للهبوط (أنا ومواطنتي) من المترو، فالمحطة أصبحت قريبة، وبينما كنتُ أنوي أن أسألها عن إمكانية لقاء قادم، سبقتني هي للسؤال، قائلة:

- إذا كان لا يزعجك، فأنا أحب أن نكون أصدقاء

- لا.. لا.. لا يزعجني إطلاقا.. بالعكس تماماً، فقد كنت سأسألك نفس السؤال، وما إذا كان عندك إيميل أو رقم هاتف.

- بالتأكيد..! خذي عندك...

و في هذه الأثناء، توقف المترو و كان علينا-صديقتي و انا- أن ننزل.

و بما أنه لم يكن لدي الوقت الكافي لفتح حقيبتي وتسجيل معلومات اتصالها، فقد اكتفت هي بتسجيل رقم هاتفي، وودعناها على عجل، وكانت تلوح لنا بلطافة من نافذة العربة..

سألتني مواطنتي التي كانت منشغلة بمشاهدة المناظر التي كان يمر بها "المترو" اثناء حديثنا، وربما قطعتها بابتسامات مختصرة :

"امْنَادْمَهْ مُسُلِمَة؟"؟

قلت:" نعم"! و ترجمت لها ما حكت لي جيني عن نفسها. فقالت:

-"هوم مُطَّابْقين، وذاك لعندهم حكً ما يوسطو أُلا صالحين ولّ طافحين، ذَ التبتيب ألِّي نعدلو نحن هوم ما يعدلوه. فقلت:

-حكً يا ختي.. حد منهم عطى مولانا انو نهدى قطعا بانّو يزيد الإسلام و ينتفعوا بيه المسلمين.

كانت صديقتي طريفة فعلقت:

-إِيْكًصَّرْ أَعْمَارْهُمْ.. هوم ينتفعوا المسلمين بهم كفار.. فضلا عن إلين يُنُهْدَاوْ. …

بينما كنت أفكر في توفيق "جيني" إلى الهداية خلال اليوم الموالي، فاجأني اتصالها الهاتفي. قررنا أن نلتقي لكي نذهب إلى مدرسة "الهدى".

و هناك، رأيت مسلمين و تعرفت على مسلمات ردوني قرونا الى الوراء.. و كأنني أعيش زمن الصحابة -رضوان الله عليهم-

دخلنا مسجد المدرسة وأول ما لفت انتباهي هو إحضار كل التلميذات من طرف مدرساتهن لأداء صلاة الظهر، وكنّ ما بين الثالثة ( حضانة) إلى العاشرة ( خامس ابتدائي ) و كلهنّ محجبات.

وكان اصطفافهنّ للصلاة في الزي المدرسي الجميل كأنه لوحة جميلة رسمها الفنان "بيكاسو"…

نفس اللوحة كانت مرسومة في شق المسجد الآخر الخاص بالإخوة التلاميذ الذكور والمدرسين.

وجدتني أرتبط بسرعة بهؤلاء الناس وجدانيا.. فكل شيء في هذا المحيط كان يشجع على التعلق بهم و كأنهم أسرة واحدة: أخوات سيدات جميلات، محتشمات في عنفوان، محجبات في أناقة، متواضعات في ثقة، خلوقات في مرح، تحس معهنّ برحمة الأم وحميمية الأخت واستعداد الصديقة واهتمام الجارة..

كانت الأخلاق الاسلامية حاضرة بكل تفاصيلها، سبحان الله!

فجأة ، وجدتني -أنا التي كنت مستاءة من احتمال عدم وجود مسلمات في أمريكا- بين أخوات مسلمات .. وأي مسلمات! أصبحنا صديقات، (جيني وأنا) إلا أنني لم أعد أراها أغلب الوقت؛ لأنني انشغلت بالدراسة.

وذات مرة اتصلت بي لتسألني ما اذا كان بإمكاني أن أذهب معها إلى "شيكاغو" لحضور فعاليات المؤتمر الاسلامي العالمي كضيفة.. وكنت أودّ أن أذهب لولا موانع الدراسة فاعتذرت؛ لألتقيها بعد ذلك بثلاث سنين في مدرسة الهدى، وقد تنقبت نهائيا وأصبحت تدير قسم الدعوة في المدرسة، وهي الآن مخطوبة لشاب باكستاني....

أخبرتني "جيمي" بعد ذلك أن والدتها اعتنقت الاسلام هي الاخرى - الحمد لله- و أنها ستعرفني عليها بعد أن ينطقها الإمام الشهادتين.

قابلت سيدة ستينية، رقيقة، وبشوشة، وذكية ذكاءا خاصا.

وعندما سألتها-بفضولي المعرفي- عمّا إذا كانت تعرف أي شيء عن الإسلام قبل اعتناق جيني له..

أخبرتني بكل أريحية عن الكثير من الأمور من بينها أنها- وهي صغيرة- كانت لا تحب الذهاب إلى الكنيسة..

وقصت عليّ كيف أنها كانت دائماً تراودها أسئلة حائرة عن الأديان كلها، وأنها لم تقتنع بالمسيحية، ولا بنظرية "الثالوث المقدس" وأنّ المسيحية ترتكز على الفكر أساسا [كما قالت]؛ وتهمل باقي عناصر الوجود الاخرى…

أخبرتني أيضاً بأنها قرأت التوراة فاكتشفت أن اليهودية دين يرتكز على المادة الصرفة، ولم تجد ضالتها إلا عندما قرأت القرءان، فوجدت الجزء المفقود، وهو الروح!!، فاندهشت من أن الإسلام جامع للأديان كلها، لأنه يعطي كل عنصر من عناصر الوجود ( الفكر والروح والجسد) حقه دون إجحاف، فاقتنعت به كدين شامل كامل يخاطب الإنسان.

لم تنس الوالدة أن تخبرني (بالقصة/المحطة) التي ميزت رحلتها في البحث عن الحقيقة؛ عندما أرغمتها والدتها ذات يوم على الذهاب لتأدية مناسك الصلاة في الكنيسة، وفي لحظة حيرة ممزوجة بصفاء مع الذات قالت، متضرعة إلى السماء، داعية دعاء المضطر، و هي التي لم تقتنع - كمسيحية- بأن الرب الذي يستحق أن يعبد؛ يمكن ان يكون له ولد او صاحبة: " يا ربُّ!.. يا ربُّ!.. إذا كنتَ موجودا حقاً فأنا أحبُّ أن أعرفك .

هكذا قالت و دموع صادقة تملأ عينيها و هي تسترجع تلك الذكرى. قالت: " منذ ذلك اليوم، أحسست أنني أخطو - بخطى ربما ليست سريعة لأنها أخذت مني سنين- إلى الله إلى أن اهتديت..

وأنا الآن في قمة السعادة وكأنني عدت من سفر طويل متعب.. إنني أحسُّ أن هذه السعادة من النعم التي يجب علي أن أحمد الله عليها"!.

تأثرت جداً بما قالت، ووجدتني أؤكد لها مطمئنة :" ستكون سعادة أبدية إن شاء الله." لقد وجدتني أغبطها على مستوى صدقها وإخلاصها وتبصرها، وأيقنت أنه هو ذلك الجزء المفقود لدينا- نحن من ولدنا وتربينا مسلمين- في رحلتنا إلى البحث عن الحقيقة...

..كأنني أعيش زمن الصحابة/سلمى أحمد الأعمى

السراج TV