ولد أكاه : لم يقبل بداه أي وصاية على الدعوة
الأحد, 16 يونيو 2013 11:26

altقبل أيام قليلة مرت الذكرى الرابعة لوفاة شيخ الإسلام الإمام بداه ولد البوصيري رحمه الله، وبهذه المناسبة تعيد السراج نشر مقابلة مع أحد كبار طلاب الشيخ بداه ولد البوصيري وهو الشيخ الدكتور محمد الحافظ ولد أكاه

في الحلقة السادسة من مقابلته مع السراج يتحدث الدكتور محمد الحافظ ولد أكاه عن شيخه العلامة بداه ولد البوصيري، مستعرضا صورا مشرقة من حياة الشيخ وعلاقته بالتيار الإسلامي وبالسلطة الحاكمة في موريتانيا،ويعرض الشيخ محمد الحافظ لما يتردد من أن مرض بداه ولد البصيري كان أمرا مدبرا

 

   الحلقة السادسة

 

السراج : سيكون حديثنا اليوم منصبا بشكل خاص عن الإمام بداه ولد البوصيري

 

كان الشيخ بداه مجددا،ومحييا للسنة،مجددا في اختيار المناهج الدراسية المحظرية،حيث انتبه إلى كثير من الأمور التي لا يدعمها الدليل من الكتاب والسنة، وحيثما صح له النص  - والنص عند الأصوليين هو ما كان آية أو حديثا لا يدل على غير معناه الظاهر- اتبعه ولا يعبأ بما سوى ذلك،وقال لي مرة ’’ كنت إذا وقفت على المنبر يوم الجمعة  لا يكون أمامي إلا الله ولا أهتم بما سوى الله ولا أخشى ولا أرهب إلا الله’’ .

 

 

كانت خلة الصدق لدى بداه سببا في قبوله لدى الناس جميعا مع دعاباته التي قد تكون جارحة أحيانا ومع صراحته المطلقة ومع عدم مجاملاته وبعده عن التكلف فهو لا يساوم في الحق ولا يداهن فيه، وهو كان صادقا في ذلك ويقع كلامه بردا وسلاما على أكباد الناس.

 

أتذكر مرة قال للحضور ’’ إن في جذبة كلما ظننت أنها خفت إذا هي بحالها فأيكم لم أدع عليه مرة وأيكم لم أوجه له كلاما غير مناسب’’ فبدأ الناس وكأنهم يوافقونه على بعض ما قال ’’ فقال لهم ’’ ولكنكم تستحقون كل ذلك وأكثر منه...لكن يمكن أن تجدوا من يسبكم ويدعو عليكم غيري أنا’’ فضحك الناس..

كان لبداه منهج جيد جدا في تبيان وجه الشرع ونصرة السنة ففي أي مسألة أراد تبينها يبدأ فيها بأقوال العلماء الموريتانيين مثل الشيخ سيدي محمد الخليفة ولد  الشيخ سيدي المختار  والشيخ محمد المامي والشيخ محمد سالم ولد ألما وغيرهم من المشايخ فإذا حرر من أقوالهم ما يدعم رأيه تقدم إلى الشروح المعتمدة لمختصر خليل فإذا حرر منها المطلوب،تقدم إلى النص فبين وجه الاستدلال في المسألة،ولها أثر تربوي مهم ولا شك أن الشيخ بداه رحمه الله كان يتساهل في بعض هذه المسائل،فأذكر مرة أنه كان يقرأ لنا من أحد كتبه وكان يعزو كلاما للشيخ سيدي المختار الكنتي رحمه الله تعالى وضمنه الحديث ’’ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم’’ فانفلت من لساني دون أن أنتبه ’’ أن الحديث ضعيف جدا ’’ فنظر إلى الشيخ بداه بعض الوقت ’’ وقال لي صحيح الحديث ضعيف جدا  ولكن الصالحين لا يعرفون الكذب’’ ..صحيح أن منهج التحقيق يتطلب التنبيه إلى درجة الحديث والأثر ولكن طبيعة التعامل مع العلماء ومع آثارهم تقتضي أيضا مستوى من اللياقة.

كان بداه رحمه رافعا شعار الكتاب والسنة مدافعا عنهما،وقد قال فيه الشيخ محمد عالي بن عدود إن ’’ أهل نواكشوط لايستغنون عن الشيخ بداه ولد البصيري ومياه إديني’’.

وقد أخذ هذا المعنى الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله في أبيات من الرجز يقول فيها

الشيخ بداه الإمام دون شك

معلم مصنف مفت مزك

يجمعه والعذب قدرمشترك

لولاهما لمصرنا هذا هلك

 

السراج : ماذا عن علاقات بداه مع الأنظمة المتعاقبة على البلد؟

 

محمد الحافظ : من صدق بداه ولد البصيري إنه كان صادقا مع نفسه فيصدق الناس معه وكان يحترم نفسه فلذلك احترمه الناس،فقد رغب عما في يد السلطات وما جلس يوما أمام مسؤول يطلب حاجة لنفسه،وكان يقول لهم من ترك لكم مناصبكم وسياراتكم وأموالكم تتركونه وشأنه وكان يرفض دوما أن تشير عليه السلطات بمواضيع الخطبة ومرة حاول أحد الرؤساء العسكريين في البلاد أن يشير عليه ببعض مواضيع الخطبة فغضب الشيخ بداه رحمه الله وقال له ’’ أيهما يعلم الآخر ..العالم أم الجاهل’’ فأجاب الرئيس ’’ العالم من دون شك هو من يعلم الجاهل ’’ فأعاد الإمام بداه السؤال وقال ’’ وأنا وأنت أينا العالم وأينا الجاهل ’’ فقال الرئيس ’’أنا هو الجاهل وأنت هو العالم’’ فقال الإمام ’’ إذا انتهينا فالجاهل لايعلم العالم’’.

وكان الإمام بداه رحمه الله يخاف من حضور موائد الرؤساء،ومرة حضر مجلسا فيه مسؤول كبير فناوله كأسا من الماء فرفض أن يأخذه فلما ألحوا عليه ’’ قال لهم عندما أشرب ثم أسأل ثم أفتي،قد أسلك مسلكا لا أرضاه’’ وكان متقشفا جدا في معيشته وفي طعامه،ربما كان عشاؤه في الأكثر قطعة خبز وشيئا من أرز بارد،وربما شرب شايا مصنوعا من الدباغ/ دباغ الشجر وربما ينام على قطع ’’ من الكراتين’’ وكان يقول ابتعدوا عن ’’ كراتيني هي أهم عندي من زرابي الحسن’’.

 

الشيخ بداه ولد البوصيري رحمه اللهالشيخ بداه ولد البوصيري رحمه اللهكان الشيخ بداه ذواقة للأدب،قرأت عليه مرة قصيدة كتبتها بعد أن فاتني درس الحديث وكنت حينها في دولة تقرأ عليه صحيح الإمام مسلم، وفيها ذكر الملوك،فقال لي الشيخ بداه مداعبا عندما تريد ذكر الملوك بأمر خير فاذكرني معهم،وإذا أردت أن تسيء إليهم فلا تأت بذكري’’

 

ومن القصيدة على ما أتذكر         

 

حسبي من الدرس أن ألقاك ملتمسا    منك الدعاء فيروي فيضك اليبسا

 

ويينع الممحل الذاوي بدعوتكم         فيستحيل ممض في الدنا لعسا

 

وتشرئب الأماني حفلا ذللا              لا خاويات وفاض لا ولا شمسا

 

لازلت هذا الدين محتسبا              لله ترفع من ذي الملة الأسسا

 

ألفيت سنته الغرا قد اندرست              فصرت تحيي من الغراء ما اندرسا

 

تهدي الحيارى بتيه الجهل تحمل في          ديجوره المدلهم الحالك القبسا

 

وتنهج اللاحب الميمون عثرته        فلا يقال لعا فيه ولا تعسا

 

أبقاك ربي من المحذور في كنف           عناية الله ما انفكت له حرسا

 

وعز ناصرك الميمون طالعه          وظل في صولة الأيام مترسا

 

مني إليك سلام لا تنوء به         مزن تواصل إرقالا صباح مسا

 

كلا ولا الهيطل المخطوف مئزره    أرسلته فانبرى أغريته عدسا

 

فانساب يطوي الفيافي البيد منطلقا    شؤبوب وبل حدته الريح منبجسا

 

ولا بحارا من المسك الذكي غدت    حبرا مصوغا تراه جاريا سلسا

 

ولا النباتات  أقلام مصــــــــوبة    على القراطيس تملي سرها همسا

 

ولا هوادي قريض راض سورتها    خريت شعر يناغي الطبع والجرسا

 

فتتلئب بوادي الشيخ حاملة           ذكرا أطالت له لو ينتهي النفسا

 

أيا إماما حباه الله منزلة          عنها تقاصرت الملوك والرؤسا

أنت الإمام وهذا الناس خلفكم      تذكي لهم من سنا الإسلام ما انطمسا

لازلت في قمم العليا مرتقيا           بداه يا حلية الأيام والجلسا

السراج : ماذا عن علاقة الإمام بداه ولد البصيري بالتيار الإسلامي؟

محمد الحافظ : كان بداه رحمه الله رجل مواقف إسلامية يحتسب فيها لله،سار برجل المجدد السلفي العلمي وبرجل الحكيم الهادئ الذي يسير في طريق شائك أمامه المطبات والأخطار،وأي فكرة تستقي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كان بداه مؤازرا لها بشرط أن تتوخى أسلوب الحكمة والوسطية التي لا تثير غبارا ولا تستفز شعورا ولا تتحدى طرفا،ومن شأن هذا المنهج مع مرور الوقت ومع التغيرات التي تقع في السلطة أن يحرز مكاسب،كان طلاب بداه يقرأون له كتب الفكر الإسلامي فيقول هذا أمر جيد وهو الذي يبحث عنه الناس،وكان في المقابل كثير النصح للشباب وللعاملين للإسلام بالحكمة والوسطية والتعامل الإيجابي مع المجتمع والسلطة ولهذا احترمه الجميع،كان صادقا من السلطة ناصحا لها وكان صادقا مع الشباب حاضا لهم على الاعتدال،فخضد كثيرا من أشواك التطرف لدى السلطة ولدى بعض الشباب.

 

 

 

السراج : بدأت علاقات الشيخ بداه مع السلطة تسوء بعد اعتقالات الإسلاميين في 1994 هل تذكرون بعض مظاهر ذلك؟

محمد الحافظ : على كل حديث يجري حديث كثير في هذا المجال،والبعض يقول إن الأوضاع الصحية لبداه ولد البصيري كانت جزء من ذلك،ويتحدث الكثيرون والله أعلم – لا أحب الحديث في هذه المسألة – أن مرض الشيخ بداه كان مدبرا ولله أعلم،لقد استدعي الشيخ بداه خارج العاصمة أكثر من مرة،وكان يقال إن ذلك بهدف الراحة والاستجمام وإذا كان هنالك أمر مدبر من وراء ذلك فالله أعلم.

لكن ما أعرفه أن الجهات التي كانت تستدعيه قد لا تكون طرفا في المؤامرة،فالقائمون على ضيافته وخدمته كان من خيرة المخلصين له ومن خيرة المخلصين للعمل الإسلامي ولله أعلم.

وأذكر مرة عندما طال مكثه هنالك اشتقت إليه،وكانت في الشيخ بداه بعض الخلال النبوية، ومن عرفه أحبه،لبشره وبساطته ورحمته وكتبت له

إلى شيخنا الأسنى سلام ومن بعد    فهذا مشوق ما لأشواقه حـــــــــد

إلى شيخنا بداه بدر سمائنا         تكفنه حفظ وحالفه جد

ألوم به من لامني في وداداه       وحق لأهل الفضل من أهله الود

وما شاق ذا القلب المعنى بثينة     غداة النوى كلا ولا تربها دعد

وما شاقني إلا أغر محجل          وهدي قويم ثم معرفة عد

وقد كنت مشتاقا على القرب واللقا     يسير فكيف اليوم إذ شحط البعد

عسى الله يدني بعد مزاركم         فيطلع فينا من طلوعكم سعد

وتبرد أحزان تأجج بالحشا          لهن ضرام لا يزال له وقد

رعاك لهذا الدين والعلم والتقى     وحفظ حقوق المسلم الصمد الفرد

ولا زلت في أمر المعالي مجليا    تخوض على رغم الأعادي بك الجرد

عليك سلام أي أمان ورحمة     ولان له حزم وطاب لكم وهد

وأي مكان في البلاد حللتم      وإن كان نجدا فهو من يمنكم وهد

كان بداه ذواقة للأدب كان محبا له وكان يحفظ كما هائلا من الشعر،ذات مرة كان يكتب أبياتا شعرية فخشيت أن يكون قد نسيها فقرأتها أمامه فقال لي : هل تعلم ماذا قال مم بن عبد الحميد للطلاب عندما سألوه هل تحفظ الديوان الستي،فأجابهم : وهل أفنى شبابي غير هر.

كان بداه أيضا من كبار المتصوفين المحبين لله تعالى الذين يجهدون أنفسهم في العبادة،وكان يملأ حياته بمعاني التقوى والإقبال على الله، وكان يعتمد في كل ذلك على القرآن والسنة دون تزيد ولا فلسفة.

كان كثير البكاء غزير الدمع طويل القيام،كثير القراءة والذكر والدعاء وكانت له ترانيم يعزي بها نفسه ومن آخرها وهو في حاضرة ’’ أبيض الماء’’ كان يترنم بصوته الشجي الوقور العذب ويردد.

كاشف مولاي عن روحي ظلمه

بعريظي الآية عند أبيض المه

وبفكري في آيه ساكت لاكلمه

والله امعاي سداد الثلـــــــمة

وقضاي الغاي بمعنى الكلمة

ولا فم الغاي ذاك أهيه الما

والشيخ امعاي  وامعاه العلمه

أهل الولاي  وأهل الكلمة ...إلى آخره

ويمكن القول إن بداه كان ’’ امغني’’ ذا قدم راسخة جدا في الأدب الشعبي،وكان شاعرا ويمكن إدراج شعره في أدب الفقهاء،ويمكن القول إن حياة بداه مرت بمراحل منها دراسته المحظرية التي درس فيها كل ما يدرس في المحظرة من منقول ومعقول،وذلك بعد إتقانه القرآن على شيخه سيدي الفاللي ولد محمودا الذي كان يصفه ’’ بالشيخ المسكت’’ وأخذ ’’ التصوف النقي على حد تعبيره’’ ودرس على شيخه المرابط محمد سالم ولد ألما الفقه والتصوف وقال لي بداه مرة’’ ناولني شيخي محمد سالم ولد ألما أورقا كثيرة من زاد المعاد وقال لي خذ هذا إليك’’ ويضيف بداه ’’ لعل الرجل كان مكاشفا له’’

 

في فترة دراسته على المرابط محمد سالم ولد ألما كان المرابط بداه مجذوبا كان يتمايل طربا ويقول’’ يا أولاد ديمان ’’ ال داير منكم يزيان..وادور اتم استوثيق ..اتم اعامل ذا السبحان...معاملة تليق,, فيعلق بعضهم قائلا هذا الطالب التندغي مجذوب.

 

وحدثني بعض الثقاة إنه كان يصلي التراويح بالناس ولا يوتر ثم يحلب بقرته ويتعشى بلبنها ثم يوتر بالقرآن الكريم،وحدثني الأخ محمد محمود ولد الأمين ( رئيس الحزب الحاكم حاليا) وكان ممن سكن مع الشيخ بداه سنوات طويلة وخدمه فترة مديدة أن بداه لم يكن ينام مطلقا فلا تستيقظ ساعة إلا وجدته قارئا أو ساجدا أو راكعا،فإذا ما أذن لصلاة الفجر دخل مكتبه وبدأ يطالع ثم يدخل ويصلي بالناس،ولا ينام إلا بعد الضحى.

 

وهذا هو دأب الصالحين وطريق القانتين ومرابع السائرين في طريق الخلود،كانوا قليلا من الليل ما يهجعون،وكانت قلوبهم معلقة بالمساجد وكانت ألسنتهم رطبة بذكر الله وأفئدتهم عامرة بحبه وخشيته،أشهد أن بداه كان من هؤلاء،ولعل الأبيات السائرة المروية عن سفيان بن سعيد الثوري تحدث عن هذا المعنى حيث رآه بعضهم بعد وفاته فأنشد له هذه الأبيات

 

نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هينئا رضائي عنك يا ابن سعيد  .

 

لقد كنت قوام إذا الليل قد دجا   بعبرة محزون وقلب عميد

 

فدونك فاختر أي قصر تريده     وزرني فإني منك غير بعيد

 ولد أكاه : لم يقبل بداه أي وصاية على الدعوة

السراج TV