الشيخ محمدن ولد المختار الحسن: في ظل الابتلاءات ينمو العمل الإسلامي وتنمو الدعوة |
الجمعة, 28 يونيو 2013 16:54 |
السراج: ولكن قبل اليمن، قد مرت عليكم أحداث 1994 هنا في نواكشوط، كيف كانت؟ الشيخ: لم أتعرض لاعتقال، ولم أختف، فأنا ألزمت نفسي أن أكون داعية مسجديا، ولا أدخل في السياسة كثيرا، وبالتالي لم أعتقل. السراج: لكن بعض زملاءكم اعتقلوا! الشيخ: نعم اعتقل كثير من زملائي وأصدقائي، ومن الذين أعرفهم، لكن لم أكن مشتغلا بالسياسة، كنت متفرغا للتدريس، وطلب العلم والتعليم، كنت وجها مسجديا دعويا، وبالتالي مرت أحداث 1994، ولم أتعرض فيها لشيء كبير. السراج: ما هو تقييمكم لأثر تلك الأحداث على الصحوة الإسلامية؟ الشيخ: الصحوة الإسلامية اشتد ساعدها ولله الحمد، وذلك نتيجة للابتلاءات التي مرت بها، فهذه الابتلاءات ضرورية، وهذه الابتلاءات، كما قال أبو طالب:
بنا انتعش العود الذواء وإنما بأكفافنا تندى وتنمي أرومها ففي ظل الابتلاءات ينمو العمل الإسلامي وتنمو الدعوة، فالعمل الإسلامي بدون ابتلاءات يبدو أنه غير صادق؛ فإذا صدق جاء الابتلاء، فالله سبحانه وتعالى يقول: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"، هذه الاعتقالات في 1994، وفي 2003، والمضايقات، هذه طبعا أكسبت الدعوة والصحوة مصداقية أمام الناس، وعلم الناس أن هؤلاء لا يشترون ولا يباعون بالدراهم. السراج: ولكن أليس منهم من ذهب إلى النظام، وبعد 1994 تمايزت التيارات الإسلامية، فاتجه السلفيون وجهة والتبليغيون وجهة والإخوان وجهة؟ الشيخ: أنا لا أفقه في هذا كثيرا، إنما أفقه في الدعوة والعلم الشرعي، وهذه أحداث كنت أرصدها وأتابعها، وأسمع عن إخوتنا السلفيين، وعن الإخوان، وحركتهم وأنها حلت، وأن قادتها اعتقلوا، إلى غير ذلك، وأن الذين كانوا في ذلك العمل انقسموا، وأعلم أن هنالك حزبا سياسيا يسمى تواصل لاحقا. السراج: تعنون حزب الأمة؟ الشيخ: لا؛ أنا حضرت بعض تجمعات حزب الأمة، وكان حضور هذه التجمعات هو مجرد حماس؛ لأن القائمين على العمل الإسلامي كانوا يريدون إقامة حزب، فهو مجرد حماس هكذا، لكن كنت مع الذين حضروا التجمع الذين كان الشيخ محمد ولد سيدي يحي رمزا قائدا فيه، وكان تجمعا كبيرا في مسجد المقاطعة الخامسة. ولكن كما قلت لك، هذه الفترة رافقت أنني كنت خارج البلد، ولكن مع انتشار الإعلام، وانتشار المواقع الإعلامية، بدأنا ندرك عن هذه الأمور، ونعلم عنها أكثر، بدأنا ندرك أن في الساحة تيارات مختلفة لكن أيضا اهتمامي الأكبر كان بالجانب العملي، فأنا أستاذ علوم شرعية، وأتفرغ لهذا، "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه". أعود إلى رحلتي لليمن، وصلت اليمن، فكانت جامعة الإيمان في سنتها الثالثة، وجدت أمام جامعة الإيمان إشكالية كبيرة في تدريس مادة النحو، فنصحني أحد الأساتذة "التوانسة"، وهو زميل لي، فنصحني أن لا أدرس اللغة في الجامعة، فقلت ما الذي يدرس من اللغة هنا؟ فقال ألفية ابن مالك، فقلت: أهو ابن مالك الذي أعرف، أم هو شخص آخر، فقال هو ابن مالك الذي تعرف، فقلت إذن سأدرس الألفية. السراج: بم علل النهي؟ الشيخ: لأني كنت ثالث عشر أستاذ للمادة خلال ثلاث سنوات، فقد درسها قبلي اثنا عشر استاذا، لم يستطيعوا أن يدرسوا المادة، فخلصت منها جامعة الإيمان. السراج: ما مبرر هذا العدد الكبير؟ الشيخ: لأنهم لم يكونوا يعرفون كيف يتعاملون مع ألفية ابن مالك، ولا درَسوها، وبالتالي لم يستطيعوا، فالمتداول هناك، هو قطر الندى وشذور الذهب، والمشايخ هناك لا يعرفون كيف يتعاملون معها. أتذكر أنني جئت القوم، وهم في السنة الثالثة ووجدتهم وصلوا النواسخ، يعني أنهم في الربع الأول من الألفية، فكان أول درس لي معهم هو قول ابن مالك:
لإن أن ليت لكن لعل كأن عكس ما لكان من عمل فدرستهم أبيات قليلة، ففتحوا ابن عقيل، فقلت لهم: لا، لا يجتمع شيخ وكتاب في القسم، أو في الفصل، فاستغرب الطلبة ذلك، كان كل واحد من الطلبة عنده كتاب ابن عقيل، والطلبة كثيرون في حدود مائتي طالب، فانظر إلى مائتي طالب، ومائتي كتاب، فهذه طبعا ستحدث شوشرة، فكان في تلك الفترة الدكتور ياسين جاسم، أحد المشايخ السوريين، فقال لي: الشيخ محمد! أنت تدرس الألفية بدون كتاب!!، فقلت نعم، أنا أدرس الألفية بدون كتاب، فقال لي: الجامعة تلح على أن يكون الكتاب بيد الشيخ، فقلت له: أنا ملتزم بما في الكتاب، لكنني لست ملتزما بإحضار الكتاب، سأدرس ما في ابن عقيل لكنني لست ملتزما بإحضار ابن عقيل، فراجع الجامعة، وكأن الجامعة استخبرت من الطلاب... كان التدريس ممنهجا؛ فأنا قد درست في الجامعة من قبل، ودرست أيضا في الثانوية والابتدائية، فكان عندي رصيد في التدريس مهم جدا، فكنت أدرس خمسة أبيات، أو ستة، أو سبعة من الألفية، وأشرح الأبيات شرحا مبسطا، وأملي عليها إملاء مبسطا، وأذكر البيت الأول، فأعطيه رقما 1، و2، و3، و4، وأتحدث في الشرح عن القواعد تباعا، أولا، ثانيا، ثالثا، رابعا، وهكذا، فكل بيت، أجعله قاعدة مستقلة، فيكون الدرس عبارة عن خمس قواعد في حدود خمس أسطر، فاستحسن الطلاب هذه الطريقة، وبالتالي كأن الشيخ أراد أن يحضر مرة، فجاء وفد خليجي، فأراد أن يحضر الشيخ معهم إلي، فوجدني أدرس: وبعد ذات الكسر تصحب الخبر لام ابتداء، نحو إني لوزر ولا يلي ذي اللام ما قد نفيا ولا من الأفعال ما كرضيا وقد يليها مع قد كإن ذا لقد سمى على العدى مستحوذا وتلزم الواسط معمول الخبر والفصل واسما حل قبله الخبر فوجدت الجامعة أنها قد حلت لها إشكالية كبيرة في تدريس اللغة، فالتزمت تدريس النحو لذلك الفصل إلى أن أكملت له الألفية، ودرست أيضا التفسير في هذه الجامعة، وغاب أستاذ الأصول إلى حضرموت فدرستهم إرشاد الفحول، فكان الشيخ يدرسهم فيقرأ من الكتاب وهكذا، فدرستهم مسالك العلة من إرشاد الفحول، ودرست روضة الناظر لابن قدامة؛ فعهدت إلي الجامعة بتدريس بعض المواد الأخرى. وافتتح في الجامعة قسم الفقه المقارن، وكان هنالك المذاهب الخمسة، مذاهب الأئمة الأربعة، بالإضافة إلى مذهب الزيدية، فكان الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان رئيس قسم المذهب الحنفي، والشيخ العمراني رئيس قسم المذهب الحنبلي، وحسن الأهدل رئيس المذهب الشافعي، وكنت رئيس قسم المذهب المالكي، ومدرس المادة أيضا للطلاب في الدراسات العليا، (طلبة الماستر) ففرض علي هذا الانصراف إلى الفقه والتعمق فيه، فأعطيته عناية خاصة. السراج: متى كان هذا؟ الشيخ: كان في السنوات: 2001، و2002، و2003، و2004، فأوليته عناية كبيرة، فجعلت النحو والأدب وراء ظهري، واهتممت بالفقه، ودرست قواعد الزقاق، وكنت لم أدرسها من قبل، فكنت أستعين بالمختصر وشروحه، لكن ذات يوم اعترضتني هذه القاعدة: "هل الأرض تربي أم تستهلك"؟ وعليه الخلاف في حرمة كراءها بالطعام، وطبعا لم أدرس قواعد الزقاق، فنظرت في الشرح، فإذا به لا يغني، وفقهاء المالكية معدومون في البلد، وهذه إحدى المآزق التي تعترض من يقرأ من الكتب ويطالع من الكتب، فكرت مليا، ففتح الله في المسألة، أنه إذا قلنا إنها تربي، فمعناه أننا إذا بذرنا فيها الطعام، واكتريناها بالطعام، فقد بعنا طعاما حاضرا بطعام نسيئة، وإذا كانت تستهلك فإن الحب الموجود في أعماقها، يعتبر معدوما، ونكون قد اكترينا العرض بالطعام، وبالتالي يكون وجه الإباحة، قلت ذلك، وبعدما جئت هنا إلى موريتانيا، ذكرت ذلك للشيخ ان ولد الصفي فضحك، وقال لي: ذاك كما قلت، فقلت أنا اجتهدت فيه هكذاـ، ولكني أتورع من تدريس التلاميذ بهذا لأني صدرتهم به، وهو خبط عشواء. استفدت كثيرا من تدريس الفقه، ومن خلال تدريس قواعد الزقاق لسنتين، فهمت كثيرا من المسائل، وخفايا خلاف الفقه المالكي، كما أني استفدت من حاشية الحطاب على خليل، وشرح التسولي على التحفة...، كما أنني أعتبر كتاب محمد مولود الكفاف هذا كتاب نوازل؛ أستحسن فيه ذكر المسائل التي ليست في خليل، فهو يقول: والشرط كالعيب، وفي العيب رعي عرف، كما روى الإمام الالمعي محنض باب....... الخ كنت أعجب بخروج محمد مولود على نص خليل، وإتيانه بالنوازل، فهو يقول في باب قضاء الديون: [....] والقصري[1] إن وجده بالبلد لزمه، ولو بما لم يُعتد وقوله أيضا في الهبة: وإن تهب له من قبل ما شعر فهي له إن [شاء] رد أو أقر كأن درى، ولم يقصر والشرا [...] منبرم إذا درى وقصرا وهل له الثمن أو للحابي تخالفت رواية الكتاب فهذه النوازل التي يذكرها الشيخ محمد مولود جميلة جدا، فمثلا قوله: ومن يحز على محروز سيبويه بينة بأنه كان لديه لم يجده، وذا إليه ذهبا خليل، وابن محرز، وأشهبا[2] فقد كان للكفاف دور كبير في تفقيهي، وقد درست في هذه الجامعة هذه الفترة، وتعاقدنا على أن آتي شهرين لقسم الفقه المالكي، وأكونهم تكوينا سريعا، أدرسهم فيه رسالة ابن أبي زيد بمعاملات الكفاف، بقواعد الزقاق، وأعود لإكمال ثمانية أشهر، لكن ضايقتني السلطات اليمنية، واحتجز جوازي لمدة سنتين نتيجة للقرب الكبير من الشيخ عبد المجيد الزنداني، والسمعة أيضا، فقد كانت كبيرة في الجامعة، لا اقولها تزكية للنفس، ولكن هذا جعل الأمن يضغط علي ضغطا كثيرا، فقد عينت في الجامعة، في مجلس الاكتتاب فيها، برئاسة الدكتور عبد الكريم الديلمي، وعضوية عبد الكريم زيدان، كما كنت عضوا في المجلس العلمي، وفي المجلس التأديبي بالجامعة، وهذه كلها كانت على مرأى ومسمع من الأمن اليمني، فضايقني كثيرا، واحتجزني، بل هم بالترحيل أولا، واحتجزت في مطار صنعاء، لمدة ثلاثة أيام، على أساس أن أرحل ترحيلا قسريا، فرفضت، حتى أستوفي حقوقي كاملة، فأنا أستاذ مدرس في الجامعة، ولي حقوق... طبعا هذا كان بعد أحداث سبتمبر، وبتدخل من الشيخ عبد المجيد، واتصال على الرئيس اليمني على عبد الله صالح، أعطيت شهرا على أن أشرف على امتحانات الجامعة، فكانت تلك فرصة للبقاء في الجامعة لمدة سنتين، إذ كنت مصرا على أن أبقى في اليمن لسنتين؛ لأني كنت مدركا أني إذا خرجت من اليمن فلن أعود، فأشرفت على تكوين طلبة الفقه المالكي، وكنت بدأت معهم التكوين، فلا أريد أن أسافر لأني لا أدري أأعود أم لا. كنت قد طلبت سنة 2002 أن أعود إلى موريتانيا فرفض الشيخ عبد المجيد، فودعته، على أساس أني ذاهب إلى موريتانيا؛ لأن الوالد كان ضعيفا حينها، فقلت أنا يلزمني أن أعود إلى موريتانيا، فقال لي: حفظك الله في حلك وترحالك وأعادك إلينا، فكان هذا آخر عهد بالشيخ. رأيت الشيخ عبد الكريم زيدان وهو يمر أمام الفصل الذي يدرس فيه، فقال لي: ولم أر من عيوب الناس عيبا كنقص القدرين على التمام فقال: ستسافر عن الجامعة، فقلت: أي نعم، نتيجة لظروف الوالد، فقال: ولم أر من عيوب الناس عيبا كنقص القدرين على التمام وكأنه لم يقتنع. عدت إلى موريتانيا، وفيما بعد، أخبرني الطلبة أنه فتح قسم للجامعة في حضرموت، فطلبوا مني أن أكون هناك فقلت: لا. [1]- يعني به الإمام الكصري. [2]- طبعا هي منصوبة هنا على المعية. |