ولد سيدي: أهم ما كنا نرتكز عليه هو نصوص الوحي |
الأحد, 04 أغسطس 2013 13:50 |
مع الشيخ محمد الأمين ولد الشيخ يأخذ الحديث متعة خاصة، فالرجل غزيز الحكم غزير المعارف غزير الدمع، يرى شهود الحق في كل شيء، يتحد بلسان صادق لا يعرف غير صفاء الحق ووضوحه، وبنفس شفافة مؤمنة، يتحدث الرجل عن محطات مهمة من تاريخ الدعوة والعمل الإسلامي في موريتانيا و يجول السراج الدعوي مع الشيخ في هذه المقابلة في بقية من ذلك التاريخ.... السراج: كيف كنتم تعيشون تلك الظروف، وأنتم نواة عمل لم تتضح معالمه بعد، حيث لا يفهمكم الأهل –المتدينون بالطبع-، وتجابهكم السلطة وتجابهكم أهم القوى القومية واليسارية المتربصة؟ الشيخ: الأمر كان في غاية الصعوبة، فكل من خرج يقرأ ما كان يقرأ في المحاظر، سواء كان فقها أو قرآنا أو غير ذلك مما يقرأ في المحاظر من كل شيء يرونه له علاقة بالمحظرة، يتألب عليك أهل الشارع، ويقولون: "هوه.. هوه" "هذا عمل السلف.." هذا أثر السلف.." في سخرية وصلف وحدة لا يقوم أمامها إلا الجبال الراسيات، سخرية ما فوقها سخرية، وإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم يضحك منك ويسخر... هذا بالإضافة إلى قبضة من حديد يفرضها من خلفهم الاستعمار، فالاستعمار ما زال مؤثرا حتى الآن، وما زالت قبضته كما هي، وكلما خفت قبضة حاكم، استبدلوه بمن هو أشد منه قبضة، وأقوى شكيمة في محاربة الحق.. وهذا أمر واقع، يؤسفني أن أقوله لكنه الحق... وكانت قبضة ماري تريز قوية جدا، وخطرة، ففعلا أن هنالك قيم يستشف منها أن هناك دولة، وأن هناك احترام للدولة، وأخلاق المختار ولد دداه، أما ما سوى ذلك فحرب شعواء على الدين والمتدينين خاصة في مجال التعليم، وخاصة على القادمين من المحظرة... فقد حدثني محمد الأمين الشيخ أنه جاء سنة 1963 ليبدأ رحمه الله مدارس ابن عامر، وأنهم شنوا عليه من الحروب ما لا يمكن أن يتصور، ومنعوه الأساتذة.. وحين شعروا بقوة شكيمته، وأن منع الأساتذة عنه لا يثنيه بل سيظل يثابر ولو كلف الأمر أن يدرس بنفسه كل الأقسام، حينها جاءوه وطلبوا منه إلغاء المدارس حتى يفتحونها بشكل أقوى، وبمال أوفر، وبمناهج أمتن، فتكون إشعاعا علميا حقيقيا، وذات مرة جاءوه وقالوا له: نحن نريد أن نضم إلى هذه المدرسة مدارس أخرى، فتكون ضخمة وكبيرة، وليست بهذه البساطة والتواضع، فقال: ما أحسن ما تقولون! هاتوا ما عندكم! فقالوا: نحن ننوي القيام به، فقال: إن ما تنوون القيام به، سأجمعه إلى عمل أنوي القيام به، ليكونا ضخمين، أما ما هو قائم، فلا يمكن أن يجمع إلا إلى ما هو قائم، لا إلى ما هو منوي، فلنترك القائم مع القائم، والمنوي مع المنوين وكل لنوعه أصلح... ولكنه تعامل مع الشرطة والقضاة، والأمن، لكي يثبت للدولة أنه ليس متطرف، ولا ينوي مخالفة الدولة في أي موقف من مواقفها.. ولا الاعتراض عليها في كل ما تقوله. السراج: قلتم إن هناك سخرية من العلم والعلماء والتدين، هل عشتم موقفا شخصيا في هذا؟ الشيخ: بكل تأكيد فكلما خرج إنسان يقرأ شيئا مما كان معروفا في المحاظر، لاقى من الهمز واللمز، والغمز والسخرية، والنكاية، ما آذاه ورده على عقبيه، وكثير من الناس نسوا القرآن لأنهم إذا سمعوا يقرءون القرآن سخر منهم كل السخرية، فكانوا يتركون قراءته حتى نسوه، ونحن كنا نمارس هذا العمل بوعي تام بأنه مرفوض من قبل الدولة، وأنه محارب من طرف الدولة، وأنه محرم في قوانينها، وأنه مخالفة لكن إن لم نقم بالدين، هلكنا... السراج: بأي وجه شرعي أقدمتم على هذا العمل؟ الشيخ: كنا نشعر أن هذا الوضع، يؤدي إلى نوع من التردي الخلقي، والديني لا يمكن إلا أن نتحرك لتغييره، وأن الوسيلة الوحيدة الموجودة لتغييره، هي التخفي عن أعين السلطة والاسنكاف عن رقبائها من أجل بث الأخلاق وإحياء العفاف، ورفع لواء الدين.. وتغيير هذا المنكر، وهو أمر لا بد منه. ثم ذهبنا إلى بداه، فسألناه، ذهبت إليه صحبة محمد الأمين ولد عبدي، فأخذنا من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، وأغلق علينا الأبواب، فقلت له: نحن تحت سلطة تحرم الاجتماع في الله تعالى، تحرم الاجتماع من أجل العمل الإسلامي الجماعي، فهل يجيز لنا هذا –ونحن نعلم أن طاعة السلطان قد تكون واجبة في بعض الأشياء- العمل في الخفاء بعيدا عنهم؟ فقال رحمه الله: أنا عاهدت هذا الرجل على ألا أرميه ببيضة، (وقد سألت بعد ذلك عن قصة البيضة، فقيل إن زعيما فرنسيا زار البلد، وكان في سيارة مكشوفة، فرماه أحد الكادحين ببيضة على وجهه فاتسخت منها ثيابه، فسأل المختار ولد داداه، فكان من ذكائه أن رد بالبديهة، هذا أسلوب تكريمي نستخدمه مع ضيوفنا الكبار)، قال: أنا عاهدتهم على أن لا أرميهم ببيضة، ولكن اذهبوا في طريقكم فأنا أمامكم وخلفكم، واعملوا ما استطعتم لإعلاء كلمة الله ونصرة الإسلام، ولكن اتركوني منفصلا عنكم أعضد أفكاركم من منبري، فإذا دخلتم مأزقا أنقذتكم منه. السراج: ما هي الأسس التي كنتم ترتكزون عليها في التربية والدعوة؟ الشيخ: كل ذلك في الحقيقة كان ضعيفا، وأهم ما كنا نرتكز عليه هو نصوص الوحي، وبعض النشر القادم من المشرق، فهناك مجلة الدعوة الإخوانية، وقد كانت ثمينة، وهي محرمة في مصر، وتصدر في بريطانيا، وقد تأتي لبعض الناس بصفة خاصة في البريد، ولكن بصفة خاصة جدا. أما مجلتا البلاغ والمجمتمع الكويتي، فكانتا من أهم ما نأخذ منه الرصيد الفكري، وكانتا من أهم الروافد المكتوبة التي كنا نستفيد منها وندرسها. وبعض مدة جاءت مجلة الأمة الإماراتية فكان فيها نوع من الزاد، لكنها لم تعمر طويلا، فقد كيد لها، فما لبثت أن توقفت. السراج: ما هي رؤيتكم حينها للتدين والمتدينين التقليديين-الصوفية...؟ الشيخ: نحن نعلم أنهم هم أهل الدين، وكنا نراهم الرصيد الكبير لهذا البلد، لكنهم لا يفهموننا، ويسبقنا إليهم من يشوهوننا لهم، وقد سبقنا للساحة من شوه كل جديد، فجلهم يتصورون كل دعوة إنما هي امتداد للاستعمار... لذلك بذلنا جهدا نسأل الله أن يتقبله، وأن يجعلنا مخلصين فيها، فقد أكبر مشكلة عانيناها هي الحيلولة بيننا وبين مشايخنا الذين نخدمهم، ونسهر على ما هم عليه، لكي يعزز ويكرم، فيأتيهم متملق، كذاب، يقول لهم كلاما معسولا يصورنا فيه ككل الحركات النابتة في برثن الاستعمار فيقرفوننا ويرفضوننا دون تمحيص لما جئنا به. وكان بعضهم يقول: الدعوة هي الشيوعية، وهم على كل حال مشايخنا وهم من علمنا العلم، ولكنهم لا يفهموننا، ولا يفهمون الواقع الذي نحن فيه. فقد كانت حياة البداوة تؤثر فيهم حتى إن بعضهم ما زال إلى الآن يرفض الجمعة، وقد يتذرع لذلك من بين ما يتذرع به، بأن الجمعة فيها الخطبة والخطبة نوع من الدعوة... فالبداوة أثرت على مشايخنا، فهم عاشوا ألف سنة في منطقة ليست فيها دولة، ولم يشهدوا فيها استقرارا، وبالتالي غابت عنهم الأحكام المتعلقة بالسلطان، والسلطة النظامية، والجماعية، فلم يفهموا الجماعية إلا إذا كانت قبلية، أو حول شيخ صوفية، أو حول إمارة، من الإمارات التقليدية، وهكذا.. أما أن تكون جماعة من الدين، فالدين عندهم لا يحتاج إلى جماعة... وهذا البلد كما يقول آب ولد اخطور، يعاني من مشكلة هي بعض البعد من نصوص الوحي، فأنا أرى أن كثيرا من عادات الفاطميين قد تسرب إلينا، فأبعدت نصوص الوحي، واستبدلت بمقالات فقهية كلها تقريبا من إنتاج المصريين أو من دونهم، كالتونسيين، والمغاربة، وذلك منذ زمن الفاطميين. السراج: من تذكرون من الأعلام المضحين الذين فارقوا الحياة؟ الشيخ: رحمهم الله تعالى، يكفيهم أنهم تحملوا الأمانة في فترة كانت غاية في الصعوبة، ولم يدخروا جهدا في دعوة لا يضح فيها النجاح، ولكن إيمانهم كان مساعدا على البذل والبذر وانتظار الأجر عند الله. ومن أهم من أتذكر منهم محمد عالي ولد زين، رحمه الله، وكذا حمدي ولد خيري، فقد كان فاضلا ومتواضعا، وكلهم كانوا يضحون تضحيات كانت في غاية الصعوبة.
|