العلامة الددو : خلاف العلماء ليس رحمة دائما |
الأحد, 17 نوفمبر 2013 12:14 |
وقال الشيخ الددو في مقابلة مع موقع السراج الدعوي إن الخطاب الدعوي في هذه الفترة يحتاج جرعة من الإباء وعدم الرضوخ للضغوط،فهذا الخطاب تعتريه أحوال في بعض الأحيان ينحني أمام الموج العاتي حتى يتجاوزه،وفي بعض الأحيان يقف الموقف الصلب المناسب في الوقت المناسب.
نص المقابلة
مقابلة الشيخ الددو السراج الدعوي:ما هي ضوابط الخطاب الدعوي في الفترة الحالية التي تشهد فيها الأمة انقساما أكثر مما كانت عليه من قبل؟
الشيخ الددو:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العلمين وأصلي على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين:أما بعد فإن ضوابط الخطاب الدعوي هي هي ثابتة في كل زمان وفي كل مكان،ولكن الذي يختلف ويتغير هو مستوى الخطاب وجرأته وتركيزه بحسب الوقت والزمان ومقتضيات الحال،لذلك فالخطاب الدعوي الذي جاء به رسول الله صلي الله عليه وسلم من عند الله تعالي ضوابطه هي الربانية وأنه مقصود به وجه الله ،وهو عبادة لا يمكن أن يصرف شيء منها لغير الله سبحانه وتعالي ولا بد من الإخلاص فيها لله ،ولا بد من قصد وجه الكريم فيها جملة وتفصيلا.وكذلك من ضوابطه الوسطية وعدم التطرف أي الإفراط أو التفريط فكلامها مذموم،وقد حدد النبي صلي الله عليه وسلم هذا الوسط المطلوب بين الأمرين. وقد صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال :إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشي ء من الدلجة. وقال فأوغلوا فيه برفق.وقال فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي . وكذلك من ضوابطه أنه منطلق من الحرص على هداية الناس والسعي لردهم إلى الله سبحانه وتعالي كما وصف الله رسوله صلي الله عليه وسلم في دعوته بذلك فقال:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم). ومنها كذلك التسهيل والتيسير وعدم قطع الطريق على مريد الهداية، فقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا، وثبت عنه أنه قال لأبي موسى الأشعري ومعاذ حين أرسلهما إلى اليمن يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا، فكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه. ومن ضوابط الخطاب الدعوي كذلك أن يكون على بصيرة،وذلك مقتض لأن يكون الإنسان عارفا بمن يدعوه وبمستواه، ( وما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم)، ( حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله). وقد قال الله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين). ومن ضوابطه كذلك التركيز على الأولويات والبدء بالمتفق عليه أولا كما قال الله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). فالبداية بالمتفق عليه وبالأهم ثم الذي يليه. أما ما يتعلق بتأثير الزمان والمكان فالمرجع فيه إلى هذه الأولوية وترتيبها، فالآن ينبغي أن تكون الأولوية للعناية بالأمة وكيانها وجمعها على كلمة سواء، والعناية بأهل القبلة الذين يشتركون في استقبال هذا البيت الحرام، والعناية كذلك بأهل السنة بالخصوص الذين مرجعيتهم الكتاب والسنة والإجماع وما كان كذلك من مصادر التشريع الإجماعية بين أهل السنة فمن المهم جمع كلمتهم في وجه المؤامرة التي تسلط عليهم تشتيتا وتفريقا. وكذلك من المهم في الخطاب الدعوي في هذا الوقت الذي نحن فيه بعد الثورات العربية وغيرها عدم الخنوع وعدم الرضوخ للضغوط، فهذا الخطاب تعتريه أحوال بحسب قوة الأعداء وكيدهم ومؤامرتهم فعند الشدة يشتد وعند الاسترخاء يهدئ على حد قول الشاعر: إذا نازعته الشد جد وإن ونت تقاعس لا وان ولا متخاذل. نعم. في بعض الأحيان قد ينحني أمام الموج العاتي حتى يتجاوزه، وفي بعض الأحيان يقف الموقف الصلب المناسب في الوقت المناسب، وهذا الموقف هذا وقته، كالموقف الذي وقفه سيف الدولة في قتاله للصليبيين بالحدث وقد وصفه أبوالطيب المتنبي بقوله: وَقَـفتَ وَمـا في المَوتِ شَكٌّ لِواقِفٍ كَـأَنَّكَ فـي جَفنِ الرَدى وَهوَ نائِمُ تَـمُرُّ بِـكَ الأَبـطالُ كَلمى هَزيمَةً وَوَجـهُكَ وَضّـاحٌ وَثَـغرُكَ باسِمُ فهذا الموقف المناسب الآن للداعية المخلص أن يتجرد في هذا الوقت وأن يقف الموقف الصلب الذي ليس فيه محاباة لأحد ولا تراجع ولا ضعف أمام الضغوط.
السراج الدعوي:كان للذين رفعوا شعار الوسطية في السنوات الماضية،كانت لديهم مشاريع تقارب بين السنة والشيعة،بين الإسلاميين والليبراليين،يبدوا من خلال عواصف الربيع العربي أن التقارب بين هذه الطوائف بات أمرا صعبا جدا ما السبب برأيك في ذلك؟.
الشيخ الددو:بالنسبة لأولئك لم يغيروا موقفهم ولم يعدلوه لأن التقارب ليس معناه التراجع عن شيء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا التنازل عن شيء من أسس الدعوة ومقاصدها،لكن المقصود به البداءة بالمتفق عليه والبداءة مرحلة وقد نتجاوزها فنصل إلى المختلف فيه فإذا استطعنا أن نقنع الآخرين بالحق الذي لا غبار عليه وعليه الدليل فهذا مطلوبنا وهو نجاحنا وإذا لم نستطع فلدينا نقطة مفاصلة لابد أن نصل إليها.
السراج الدعوي :شاركتم قبل فترة في مؤتمر في لاهور لعلماء المسلمين،تحدث البعض عن أبعاد سياسية لهذا المؤتمر كيف تعلقون.
الشيخ الددو: الدين كله لا يخلوا من سياسة فالصلاة لها سياستها والزكاة لها سياستها، والحج له سياسته والصوم له سياسته،والذي يريد أن يفصل السياسة عن الدين لا يعرف الدين ويريد أن يقزمه ويحشره في زاوية ضيقة وهذا ليس من الدين في شيء، فالدين هو الذي تساس به الدنيا وإذا سيست بدونه كان بناؤه على فساد على شفا جرف هار وسينهار بها، فلذلك لا يمكن أن يصلح شيء من أمور الدنيا إلا إذا سيست بالدين، والدين لا يقبل التهميش ولا يقبل أن يكون في دائرة التحكم فيطاع حيث وافق الهوى ويعصى حيث خالفه فذلك دين اليهود الذين حرفوا وبدلوا وأنزل الله فيهم قوله جل من قائل: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزىٌ فى الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون). أما الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فإنهم يأخذون بالإسلام كله بذروة سنامه وبأطرافه وأكارعه ولا يردون على الله ولا على رسوله شيئا مما جاء به، والمؤتمر المشار إليه في السؤال مثل غيره من المؤتمرات الإسلامية يجتمع فيه العلماء والدعاة لمناقشة الواقع الإسلامي ومعرفة كيد الأعداء وما ينبغي أن يرد به في الوقت الراهن وليس مخالفا لغيره من المؤتمرات، لكن الذي ميزه في هذا الوقت أنه كان بدعوة من العجم لا من العرب وأنه اجتمع فيه كثير من علماء العجم من مختلف البلدان في آسيا، وقد جاءه بعض العرب وإن كانوا قلة في جنب من حضره من الآخرين. السراج الدعوي:عبارة سائرة تقول بأن اختلاف العلماء رحمة، هل لا يزال هذا الاختلاف رحمة؟ الشيخ الددو: هذا اللفظ لم يرد في الوحي المنزل ولم يقع عليه إجماع، واختلاف العلماء قد يكون رحمة وقد يكون نقمة فاختلافهم في ما لا نص فيه من الأمور الاجتهادية، دليل على أن الله وسع في الأمر وليس المقصود أن الاختلاف بذاته رحمة بل المقصود أن موقع الخلاف موقع رحمة حين لم تحسمه النصوص ولم تضيقه ووسعته على الناس وكل موضع حسمه النص فلا مجال للاختلاف فيه. والاختلاف فيه نقمة. السراج الدعوي:كان للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين موقف من محاكمة الرئيس مرسي، ألا يأخذ هذا الموقف أيضا بعدا سياسيا؟ الشيخ الددو : بلى يأخذه كما ذكرنا، نحن لا نتبرأ من السياسة، نحن نعلم أن الدنيا لا يمكن أن تساس إلا بالدين ولا نضيق ذرعا بذلك، والذين يحاكمون رئيسا منتخبا في وقت شرعيته وهم ليس لهم أية شرعية، ويحاكمونه على أساس أنه رفع الحصار عن أهل غزة، أو أنه سعى لإيقاف الحرب عليهم وقت قيام الحرب الإسرائيلية ، يحاكمون الأمة وضميرها ودينها، ولهذا فإن نصرته ومساندته يوجبها الشرع، ومن يحاكمه إنما يحاكمه على أفعال كريمة أمر بها الشرع وأوجبها.
السراج الدعوي:بعض الذين ساندوا الإطاحة بمرسي علماء محسوبون على التيار الإسلامي وعلى سلفيته، ألا تحترمون لهم اجتهاداتهم هذه؟ الشيخ الددو : أنا ما أعرف منهم علماء كما ذكرت، أعرف ناسا ينتسبون إلى التيار السلفي وقعوا في هذا وأعرف أناسا ينتسبون إلى العلم لكن لا يوصفون بأنهم علماء، لكن الذين وقعوا في هذا من حزب النور مثلا لا أعرف فيهم علماء، بل علماء السلفية المعروفون وقفوا ضد الانقلاب وما زالوا يرفعون أصواتهم بذلك في مصر وفي غيرها، والسلفيون مثل غيرهم في هذا لا يسعهم إلا ما يسع غيرهم من الالتزام بالحق والسير في ركاب الكتاب والسنة وعدم تجاوزهما. السراج: بلادنا مقبلة على انتخابات هي جزء من أزمة كبيرة، بم تنصحون الفرقاء بشكل عام في هذا الموسم الانتخابي؟ الشيخ الددو : أنصح الجميع بأن يلتزموا الصدق وأن يعلموا أن الخلافات السياسية لا ينبغي أن تفسد للود قضية، وأن المختلفين فيها لا يختلفون على أساس وحي منزل وإنما يختلفون على آراء بشرية قابلة للتغير. والمترشحون قسمان: مترشح عرف مبدؤه ومقصده وأنه لم يترشح لمصلحة نفسه وإنما ترشح لمصلحة الدين والوطن وأنه يريد إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وهذا قد أمر الله بالتعاون معه. السراج الدعوي : فضيلة الشيخ هذه الصفة يدعيها كل مترشح ويحشد لها من الأدلة على أنه ما ترشح إلا لله والوطن؟ الشيخ الددو :الحمد لله، لكن قال الشاعر: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفى على الناس تعلم وقال الآخر: الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان. فإذا عرف أن إنسانا لم يترشح لقصد المنصب أو لقصد الراتب أو لقصد مناصرة الحاكم أو الحزب أيا كان في الحق و الباطل فإن دعمه ومساندته من التعاون على البر والتقوى، وقد قال الله تعالى: ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان).وقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). والذي يترشح من أجل مصلحته الشخصية أو من أجل مصلحة حزبه فقط ،أومن أجل سمعة يريدها أو جاه أو مناصرة للباطل فهذا ترشحه غير مشروع أصلا ومساعدته فيه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ولى على عصابة رجلا وفيهم من هو خير منه قد خان الله ورسوله والمؤمنين.) والخيانة بئست البطانة كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون). السراج:فقهاء معروفون يترشحون لمنصب انتخابي، إذا صوتنا ضدهم هل نكون بذلك خالفنا الشريعة؟ الشيخ الددو : ليس الفقه في الدين صفة تمنع موصوفها حقه في الترشح، كما أنه ليست صفة توجب دعم موصوفها ومساندته بل العبرة بالميزان الذي سبق، ولكن الترشح هو السعي إلى النيابة عن الناس في الأمر العام وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالعِرافة، فقد أخرج أبو داوود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العرافة حق ولا يستقيم الناس إلا بعرفاء)، والعريف قد لا يكون أفقه قومه فالنبي صلى الله عليه وسلم قدم رجالا عرفاء على بعض القبائل وفي قبائلهم من هو أفقه منهم وأقدم سابقة في الإسلام، لكن لعنايتهم بالأمر العام واشتهارهم بالسيادة وقيامهم بالحق صلحوا لذلك.
السراج:ألا تخشون أن يؤسس هذا المعنى إلى المال الانتخابي وبذله من أجل الحصول على المناصب على الأقل بداعي الجود والكرم السياسي؟. الشيخ الددو: لا علاقة لهذا الميزان بالتأسيس لأي إجرام فالذي يترشح لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه والسعي إلى الإصلاح لا يستعمل من الوسائل إلا المباح فلا يبذل مالا في سبيل الفساد ولا شراء الذمم، بل لا بد أن ندرك أن الصوت أمانة لدى الإنسان وهو مسؤول عنها بين يدي الله ولا يحل له أن يختار إلا من هو خير والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أوطاس ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال ما معناه أخرجوا إلي عرفاءكم. فالعرفاء هم نواب الناس الذين يتحدثون في الشأن العام نيابة عن من ورائهم من الناس، ولكل أهل بلدة من يصلح لأن يكون ممثلا لهم في أي مستوى من المستويات، وأولئك لا بد أن يقوموا لله بالحق وأن يكونوا من الصادقين فيما اختيروا له وأن لا يكذبوا على الناس في برامجهم، فلا بد أن يقدموا برامج واضحة يعرفون أنهم قادرون على القيام بها وأنهم يستطيعون تنفيذها وأن الأمة محتاجة إليها وأنها غير مخالفة للشرع وإذا حصل ذلك فالحمد لله يكون التنافس فيما سوى ذلك من قوة البرنامج وضعفه ويكون الجميع قد أراد الحق وهذا الذي نصبوا إليه ونريده. وعليه فنحن نريد أن يكون كل المترشحين من الذين يصلحون لهذا المقام ومن لا يصلح له ليس له أن يتقدم له والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: (إنك ضعيف فإن استطعت أن لا تولين على اثنين فافعل.) وقال: ( إنا لا نولي عملنا من سأله.) ولهذا لا يسع الإنسان أن ترشح لما هو عاجز عنه، وقد قال أبو العلاء أحمد هبن سليمان المعري: أرى العنقاء تكبر أن تصادا .. فعاند من تطيق له عنادا
السراج:في مجال تنظيم الفتوى في بعض الأحيان ينشئ العلماء هيئة للإفتاء مستقلة أو تنشئها الدولة وتوفر لها الموارد وتعين لها من ترى أهليته لذلك المنصب، في كلتا الحالتين ألا يكون في الأمر مستوى من التضييق على الناس وعلى المفتين أيضا؟
الشيخ الددو: ينبغي أن يكون العلماء هم الذين يختارون من هو أهل للفتوى، كما قال مالك: ما تصديت لهذا الشأن حتى شهد لي سبعون محنكا أني أهل لذلك. وحينئذ لا بأس أن تعتمده الدولة بعد اختيار العلماء له. فالعلماء يختارون من هو الأصلح من بينهم للفتوى وشرط ذلك أن يكون متقنا للقضيتين: القضية الشرعية بأدلتها،والقضية الواقعية بفهمها العميق الذي تحتاج إليه. فمن كان متقنا للقضيتين يستطيع أن يصدر الفتوى وكثير من الفقهاء قد يكون لهم حظ من القضية الشرعية ولكن قليل منهم من لديه حظ من القضية الواقعية بإدراك أحوال الناس وواقع العالم اليوم. وكل حكم شرعي كما قال الشاطبي رحمه الله مؤلف من قضيتين: كبرى شرعية يندر فيها الخلاف وصغرى واقعية يكثر فيه الخلاف، فلا بد أن يكون الإنسان محيطا بالأمرين معا حتى يستطيع الفتوى، ومن ليس كذلك لا يحل له أن يفتي أصلا وتكون فتواه ترة عليه ومعصية بين يدي الله سبحانه وتعالى فليس للإنسان أن يتكلم في ما لا يحسن والله تعالى يقول: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.) وليس معنى هذا أننا نريد تحييد العلماء وتركهم للسياسة وتركهم للمناصب فهذه الأمة أعلمها رسولها صلى الله عليه وسلم وهو قائدها الأول ثم بعد ذلك الخلفاء الراشدون المهديون من أصحابه هم أعلم هذه الأمة أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهكذا الذين تولوا قيادة الأمصار والذين قادوا الجيوش والذين تولوا المناصب العليا في هذه الأمة كانوا كبار علمائها في كل زمان وفي كل مكان. وقد سرت عدوى العلمانية إلى كثير من الناس، فأذكر أن أحد نواب البرلمان الموريتاني نصحني في الملأ ( في الحج) فقال: أنصح محمد الحسن بأن يترك السياسة والانغماس في وحلها. وهذه النصيحة لا تخلوا من أحد أمرين: إما أن تكون برا وإما أن تكون فجورا فلنحملها على أنها بر -بحسن الظن- فإذا كانت برا فالله يقول: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم). والذي يسمع هذا الكلام يظن أن الذي يقوله مبتعد عن السياسة، وأن الذي ينصح به هو النائب المتنقل بين الأحزاب. السراج: ذكر بعض المواقع أن السلطات السعودية قد استجوبتكم على خلفية رفع اليد بشعار رابعة العدوية في الحج فما صحة ذلك. الشيخ الددو: لا صحة لشيئ من ذلك لكن كهان المواقع انطبعوا بعالم السرعة فتعدوا كهان الجاهلية، فقد كان كهان الجاهلية ينتظرون كلمة من الحق ليضيفوا إليها تسعا وتسعين كذبة وكهان المواقع اليوم ليس لديهم وقت لانتظار كلمة من الحق حتى يضيفوا إليها ما لديهم من ملايين الكذب. السراج: قضية الأهلة تطرح الكثير من الجدل عندنا في موريتانيا، ما الضابط فيها؟ الشيخ الددو : بالنسبة للأهلة جعلها الله آية من آياته، وقد ورد عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال عند ظهور الهلال: "أيها الخلق المتردد في منازل التقدير والمتصرف في فلك التدبير آمنت بمن نور بك الظلم وأسفر بك البهم وجعلك آية من آيات وحدانيته وعلامة من علامات سلطانه وامتحنك بالزيادة والنقصان والطلوع والأفول والإنارة والكسوف وفي كل ذلك أنت له مطيع وإلى أمره سريع". وقد قال الله تعالي: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وقد جعلها الله مواقيت وعلامات لكثير من الطاعات والعبادات كالحج والصوم والزكاة .... ودخول الهلال أمر خفي قد يكون بعض الناس عاجزا عن رؤيته لنقص بصره وقد يكون مشغولا عن متابعته، فإذا ريئ الهلال واتفق الناس على رؤيته فعلى الحاكم الشرعي أن يحكم به. وعلى هذا ينبغي أن تكون الهيئة المختصة في الأهلة من القضاة الذين هم ثقة لدى الجميع ومن أهل التحري والصدق ومن أهل النباهة حتى لا تتمشى عليهم حيل الخصوم وحيل المفترين، وأن يستخدموا الوسائل الحديثة، وهنا الخلاف أيضا في الاعتماد على الحساب وهو خلاف قوي فالحساب اليوم اعتمد الناس عليه في أوقات الصلاة فلا تكاد تجد من ينظر إلى الزوال ويراقب الظل بالأقدام. والأهلة هي مثل أوقات الصلاة لأنها يشرع على أساس ظهورها بعض العبادات. وأقوال الفقهاء في اعتبار الحساب في الأهلة يمكن اختصارها في ثلاثة: -القول الأول: عدم اعتبار الحسابع مطلقا وأصحاب هذا القول يعتمدون على قول النبي صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، ويرون أن الأمر مختص بالرؤية، ولكن مع ذلك نجد أكثرهم يعتمد على الحساب في الصلاة. -القول الثاني: هو اعتماد الحساب مطلقا في الإثبات والنفي فإذا قال أهل الحساب الهلال لم يولد يكذب من زعم أنه رآه وإذا قالوا ولد يدخل الهلال بخبرهم مطلقا. -القول الثالث: -وهو الذي أختاره- اعتماد الحساب في النفي لا في الإثبات، فإذا قال أهل الحساب الهلال لم يولد ولا يمكن أن يرى بالعين المجردة يعتمد على ذلك فترد شهادة من زعم أنه رآه، وإذا أخبروا أنه ولد وأمكنت رؤيته فالإمكان ليس مقتضيا للحصول فحينئذ لا يعتبر ذلك.
ثم يأتي أمر آخر وهو الخلاف في عموم الرؤية فمثلا إذا ريئ الهلال في السعودية أو ريئ في مكان آخر من العالم فهل تعم رؤيته كل الأمصار هذا هو المشهور في المذهب المالكي وهو الذي اقتصر عليه خليل في مختصره عند ما قال: وعم إن نقل بهما عنهما. أي عم حكم الهلال جميع الأمصار إن نقل بهما أي بالعدلين أو المستفيضة عنهما أي العدلين أو المستفيضة فعلى هذا إذا ثبتت رؤيته في أي مكان في العالم يعتبر الهلال قد دخل وهذا دليله إطلاق النصوص كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.) والذين يرون هذا ليس لديهم إشكال إذا ثبت الهلال في أي مكان من أنحاء العالم فحينئذ يدخل الهلال عندهم، القول الثاني : هو أن لكل بلد رؤيتهم وهذا القول لبعض الشافعية وقد اختاره النووي وبوب عليه في شرحه لصحيح مسلم. وتعميم هذا يحتاج إلى ضابط، لأن مساحات البلدان مختلفة. القول الثالث : اختاره أبو عمر ابن عبد البر من المالكية وتبعه عليه عدد من الفقهاء وهو أنه إذا اختلفت المطالع واختلف التوقيت وتباعدت الأمصار جدا حينئذ لكل أهل بلد رؤيتهم. السراج:وما ذا عن يوم عرفة والخلاف فيه؟ الشيخ الددو : يوم عرفة هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، ولا يمكن أن يقول الإنسان أنا أصوم دائما إذا وقف الناس بعرفة لأن الناس سيقفون بعرفة والحال أن بداية اليوم في عرفة في وسط الليل عندنا ومعنى ذلك أنه عند طلوع الفجر على أهل منى ستصوم أنت وسيكون ذلك قبل منتصف الليل وأنه إذا غربت الشمس عن أهل عرفة فستفطر وحينئذ ستفطر بعد صلاة الظهر هنا في نواكشوط مثلا. السراج: ما تعليقكم على ظاهرة الجرائم الأخلاقية المنتشرة في الفترة الأخيرة. الشيخ الددو: هذا الأمر لا بد أن ينظر إليه من جهتين: الجهة الأولى: أن بعض وسائل الإعلام تحب الإثارة وتحب أن يكثر زبناؤها فتأتي بهذه الأخبار دون تمحيص وتشيعها بين الناس، وهذا ما يتنافي مع التثبت الذي أمر الله به في قوله: ( يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا.) وفي القراءة السبعية الأخرى: فتثبتوا والأمر الثاني: عند ثبوت الظاهرة فعلا فلا بد من علاج، وهذا العلاج منه ما هو واجب على الدعاة بتوعية الناس وتقوية وازعهم الديني،ومنه ما هو واجب على السلطة وهو ردع الذين يقعون في مثل هذه الجرائم ردعا معلنا واضحا أمام الناس بإقامة الحدود كلها فحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتا كما قال صلى الله عليه وسلم.
السراج: نختتم بنصيحة للمجتمع بشكل عام.. الشيخ الددو : النصيحة العامة أفضلها وصية الله للأولين والآخرين، فقد قال الله تعالى: ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله). فإذا كان الجميع يسعى لتقوى الله سبحانه وتعالي وهي شاملة لاجتناب ما نهى عنه وامتثال ما أمر به في الظاهر والباطن فإن ذلك سيؤدي إلى اتفاق الكلمة وجمع الصف على كلمة سواء.
|