السراج يجري مقابلة شاملة مع الداعية ولد أحمد باهي (ح1)
السبت, 26 يوليو 2014 12:30

الداعية والمفكر أحمد جدو ولد أحمد باهيالداعية والمفكر أحمد جدو ولد أحمد باهيالسراج الدعوي - نواكشوط.
أجرى موقع السراج الدعوي مقابلة شاملة مع الداعية الموريتاني أحمد جدو ولد أحمد باهي، وقد تحدث ولد أحمد باهي للسراج عن البيئة التي نشأة فيها وعن طبيعة التعليم الذي تلقاه بمختلف مراحله.
كما تحدث عن كيفية التحاقه بالدعوة ومسيرته مع العمل الإسلامي الدعوي، هذا بالإضافة إلى الحديث عن جوانب من الخلافات والصراعات الفكرية التي كانت تشهدها العاصمة في الثمانيات والتسعينات.

نص المقابلة:


السراج الدعوي: حبذا لو حدثتمونا عن البيئة التي ولدتم فيها، وعن بداية النشأة؟


ولد أحمد باهي : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أشكر القائمين على موقع السراج الدعوي، وأقدر لهم هذا الاهتمام، وأعذرهم فيما يتوهمون في من تجربة ومعلومات، فلهم الحق أن يسألوا كما يشاءون ونحن نجيب إن شاء الله حسب ما نعرف.
أنا نشأت في بيئة بدوية في قرية من قرى الحوض الشرقي، تقع على بعد 20 كلم من النعمة، تسمى بوخزام شمال النعمة، حفظت القرآن في هذه القرية، ثم ذهبت مبكرا إلى نواكشوط قبل البلوغ.
وفي هذه السنة، تعلمت مبادئ النحو، ودرست علوم القرآن المتعلقة بالرسم والضبط، وقراءة نافع، خاصة كتاب "ابن بري" الذي يبين قراءة نافع بروايتي ورش وقالون.
ثم رجعت إلى البيئة التي ولد فيها فأكملت فيها ما بدأته في نواكشوط من معارف متعلقة بعلوم القرآن رسما وضبطا حتى أخذت الإجازة في قراءة نافع.
ثم واصلت مع ألفية بن مالك حتى أكملتها، ودرست لامية الأفعال، ومختصر عبيد ربه، ثم درست رسالة محمد بن أبي زيد بنظم أبي محمد حتى أكملتها، هذي بالإضافة إلى بعض القصائد الشعرية المعروفة، وكان هذا ما درسته في المرحلة الأولى فيما قبل عام 1984م، فأنا ولدت في أواسط الستينات وهذا أهم ما درسته في المرحلة الأولى.
أما عن أهم المشايخ الذين درست عليهم، فقد درست على محمد بن موسى رحمه الله، وهو شيخ معروف توفي عام 1986م، أخذت عنه أغلب كتاب ابن بري وبعض علوم القرآن، ثم سافر عن المنطقة فواصلت الدراسة على ابنه سيدي محمد بن محمد بن موسى الملقب إسلمُ، وعليه أخذت الإجازة سنة1983م، ثم درست النحو أيضا أو أغلب الألفية على عمي عبد الله بن إبراهيم، كما أخذت بعضها على الأستاذ إسلم السابق الذكر.
وكان ممن أخذت عنهم نص القرآن ورسمه العمة الفاضلة مريم بنت محمد الملقبة "اميرة"، المتوفاة 2014. وممن قرأت عليه في تلك الفترة خالي أحمد جدو ولد محمد الذي قرأت عليه ربعا من رسالة أبي زيد القيرواني، كما درست بعضها على محمد بن موسى..وفي سنة 1984 انتقلت إلى نواكشوط.

السراج الدعوي: متى كان سفركم الأول لنواكشوط؟:


ولد أحمد باهي: كان سنة 1979م، وكانت سنة مميزة درست فيها القرآن حفظا جيدا، ودرست رسم الطالب عبد الله دراسة جيدة، ونص ابن بري دراسة جيدة، ودرست ربعا أو أكثر من ألفية بن مالك، ودرست عبيد، على العم عبد الله بن إبراهيم ومحمد........لأعود فأقرأ ما تقدم ذكره، بالإضافة للمعلقات وبعض القصائد الأخرى المعروفة.
هذه معظم دراستي المحظرية الأولى، وهي بسيطة وغير عميقة.

السراج: ما الداعي إلى سفركم لنواكشوط عام 1979؟


ولد أحمد باهي: لم يكن بإرادتي وإنما كنت فيه تابعا، فقد سافرت الوالدة في ذلك العام تعالج بعض الأطفال وطلبت مني أن أسافر معها فلبيت، وكنت يومئذ صغيرا، فطلبت مني أن أواصل الدراسة وأن لا أقطعها فوافقت على ذلك.
وصادف أنه في هذا العام فتحت ثانوية قرآنية لمدرسة بن عامر، وهذه المحظرة أتقنت فيها رسم القرآن وأيضا تدربت فيها على الكتابة، "التشكار"، وخلال هذه الفترة شاء الله أن انتقل العم عبد الله بن إبراهيم، وشيخي محمد بن إبراهيم، فدرست  عليهما عبيد وربعين من ألفية بن مالك، ثم عدت تبعا للوالدة حين عادت، فواصلت الدراسة، وكنت أنتقي بعض القصائد من الدواوين وجامع المتون فأقرؤها.
وفي سنة 1984م انتقلت إلى نواكشوط باختياري كما يفعل الشباب، مستأذنا الأهل فأذنوا لي؛ إذ كنت قبل ذلك استأذنت الوالدة في البقاء في نواكشوط عام 1979م، فلم تأذن لي، ولكنها في سنة 1984م، أذنت لي لأنها رأت أنني أستطيع أن أسافر بمفردي إلى نواكشوط في تلك الفترة، كما يفعل أغلب الشباب حينها.

السراج: كيف كان نواكشوط دعويا عام 1979م؟:


ولد أحمد باهي: لا أكتمك سرا أنني في نواكشوط حين جئته عام 1979م، كانت التجربة الثقافية والوعي عندي ضعيفين، وكنت صغير السن، وكانت تربيتي تربية بدوية، لذلك لم أكن أفهم كثيرا مما كان يحدث في المدينة.
كان الصراع قويا فيه فكريا وإيديولوجيا ودعويا، وكان الساحة الدعوية نشيطة وحية ومتحركة، وكنت أحضر الدروس والمحاضرات التي تقام في المساجد حينها في مسجد المقاطعة الخامسة.
وكنت أحضر في بعض المساجد بعض الكلمات والدروس والمحاضرات.
وكان بعض الأقارب يتصارعون علي في الانتماء والاكتساب، كل يريد أن أميل معه إلى أفكاره ورؤاه وأطروحاته، وقد زودني بعض الأقارب بكتب حزب البعث العربي الاشتراكي، وكانت كتبا كثيرة، وجاءني بعض الشباب فأخذوا مني الكتب، وقالوا إنها ضلال وانحراف، لا تجوز قراءتها ولا النظر فيها، وسحبوها مني.
وبينما أنا في هذا الصراع إذ جاءني مؤسس مدارس بن عامر محمد الأمين الشيخ، فقال لي: سأعطيك الكتب التي تصلح لها، فخذها ولا تهتم بما سواها، فجاءني بمصحف شريف، وبكتاب تفسير "الجلالين"، جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي، وموطأ الإمام مالك، وبكتاب: بلوغ المرام، بالإضافة إلى مذياع.
فقال هذا المصحف تدرس فيه كتاب الله تعالى حتى تحفظه، وهذا كتاب الجلالين تعرف منه مبادئ التفسير، وهذا كتاب الموطأ تقرأ فيه الفقه، وفي كتاب بلوغ المرام، تأخذ الحديث، والأحكام الشرعية، وهذا المذياع تعرف منه أخبار العالم، وهذه مدارس بن عامر ستدخلها حتى تأخذ منها الإجازة، ولا تهتم بما يقوله الآخرون، فنفذت ما قال لي بحمد الله.
ومع هذا فلم يكن تركي لكتب حزب البعث العربي الاشتراكي راجعا لنصائح الأستاذ محمد الأمين الشيخ، وإنما كان بسبب نصيحة من أحد الأقارب، وهو شخص فاضل دكتور، ولكنه غير مشهور واسمه، أحمد ولد محمد ولد سيدي.
وكان يدرس في ابن عامر، وكان موظفا سابقا، وكان يدرس دراسة حرة، وحصل على منحة في نفس العام إلى المملكة العربية السعودية.
وهو شاب فاضل معتدل الفكر، محسوب على التيار الإسلامي، وعلى تيار الإخوان منه بشكل عام، وإن لم يكن ذا نشاط كبير مباشر يذكر، وهو ذو حجاج عن الدعوة ودفاع عنها عندما يكون هناك حديث عنها أو يرى ملاحظة، وقد درس بعد ذلك في السعودية وليبيا.
ورغم نصائح محمد الأمين الشيخ لي إلا إنها لم تكن الحاسمة في تركي للكتب، وإنما كانت نصائح الدكتور المباشرة هي السبب، وإن كنت لم أقرأ الكتب بشكل جيد، ولم أفهما الفهم العميق، ولكن المسار العلمي بدأ بعد فضل الله تعالى بسبب نشاط محمد الأمين الشيخ.

السراج: أين كنتم تسكنون في هذا العام الوحيد؟


ولد أحمد باهي: كنت أسكن في مقاطعة الميناء على حدود مقاطعة سنكيم، وأصلي في مسجد المقاطعة الخامسة عن بعد. وكنت غير مستقل ولا عارف بالمدينة. وقد كان نواكشوط حينها يعيش صراعا بين التيارات الفكرية.
إلا أني وبعد مجيئي بشهرين بدأت الدراسة، فأخذت وقتي بشكل تام. ومع ذلك لاحظت ما في نواكشوط من صراع وكنت أحضر بعض الدروس والمحاضرات وعرفت طبيعته نواكشوط إلى حد كبير.

السراج: رغم قربكم من الطفولة..هل بحثتم عن أماكن للَّعب؟


ولد أحمد باهي: أنا جئت في الشهر السابع، إبان العطلة الصيفية، وكنت مع بعض شباب نواكشوط، منهم من هو جزائري، ومن هو من منطقة الحوض الشرقي، فلبثت شهرين معهم وكأني من مراهقي نواكشوط، أجوب شوارع نواكشوط أحيى حياة الشباب حينها في الملابس والاهتمامات، إلا أن ذلك لم يطل كثيرا، فقد انفصلت عن أولئك الشباب الذين كنت أرى فيهم نموذجا للرقي والحضارة، وأعاهدهم على أن أدرس معهم الفرنسية.
وبعد إلحاح من الوالدة على الدراسة، ونصيحة من محمد الأمين الشيخ، ومن العم سيدي محمد ولد إبراهيم، ومن الشيخ محمد محفوظ ولد محمد الأمين، الذي لبثت شهري الأول في منزله في "ابلوكات".
فقد لبثت شهري الأول في منزلي مفتي الجمهورية محمد محفوظ ولد محمد الأمين، لأنتقل بعد ذلك إلى المقاطعة السادسة.
وخلفت ورائي أولئك الشباب حيث شاء الله توجها آخر ومسارا مختلفا عن ما كنت أنوي معهم.

السراج: ماذا عن طرائف مرحلة الطفولة؟


ولد أحمد باهي: عموما لا أتذكر طرائف كبيرة، مرحلة الصبا مرحلة عادية، كنت في بيئة يهتم أهلها بدراسة بعض القرآن وبعض الفقه وبعض النحو، ولا يهتمون بأكثر من ذلك، ولم أدرس في المحاظر متغربا عن الأهل، درست في البداية عند أهلي بل في خيمة الأهل في البداية، ثم عند الأهل والأقارب في القرية، وكانت حياتنا حياة أهل القرى العادية، ليس فيها اهتمامات كبيرة وطموحات ثقافية وعلمية كبيرة، أهم ما فيها كان هو الاهتمام بالقرآن بحفظ نص القرآن ورسمه وضبطه وتجويده بقراءة نافع براويتي ورش وقالون، ودراسة بعض المختصرات الفقهية، ومبادئ النحو.
وكان الأطفال عندنا في تلك الفترة لا يهتم لهم بثقافة أكبر من تحصيل القرآن ففي البيئة عموما اهتمام بالفقه والنحو واللغة، ولكن هذا الاهتمام لا يشمل الأطفال، فلا يزيد ما يدرس لهم غالبا على نص القرآن الكريم، ولم يكن هناك تدريس مواز.
صحيح أن مجتمعنا في تلك الفترة(1975) شهد بداية صحوة إسلامية، وبداية الاهتمام بالكتاب والسنة، وأننا كنا ونحن صغار نشهد ذلك الصراع بين المتعصبين للفقه والداعين للعمل بالكتاب والسنة، وكان الصراع بينهما محتدما في منتصف السبعينات.
ففي عام 1974م مثلا، سافر الوالد إلى نواكشوط، وجاءنا بكتب من بينها كتاب الإمام بداه ولد البصيري، أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك، وجاء ببعض كتب الدليل والحديث، لتبدأ بدخول مثل هذه الكتب مرحلة صراع، جعلت الوالد ومن يصغره في السن يعملون بالدليل ويقدمونه، ومن هم أكبر منهم ينحازون للفقه التقليدي.
وبعد ذلك اصطلح الطرفان على العمل بالدليل، والراجح، ولم يعد هناك إهمال له، ولا إهمال للفقه وإلغاء له، وإنما لكل منهما موقعه المناسب له.
وكان مشايخ القرية من يكبر الوالد أو يماثله في السن كانوا جميعا ضد الدليل وقراءة الحديث، ويتعصبون للفقه والمشهور، فشهدت المنطقة صراعا كبيرا استمر من منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانينات، كاد يقطع الأرحام، وكاد يقع فيه تكفير بعض المقلدين للعاملين بالدليل.
ومنذ 1980م، بدأت تلك الحرب تضع أوزارها، وبدأ الخلاف من جديد حول العقيدة الأشعرية، والعقيدة السلفية، واشتد هذا الصراع من بداية الثمانينات وحتى بداية التسعينات.

السراج: أين كان موقعكم في الصراع خلال هذه الفترات؟


ولد أحمد باهي: في الفترة الأولى كنا متفرجين، حين كان الصراع بين المقلدة والعاملين بالدليل لأننا كنا صغارا يومئذ، ولكن لما تحول الصراع إلى مرحلته الثانية، الصراع بين العقيدة الأشعرية، والعقيدة السلفية، كنا حاضرين هذا الصراع، وكنا إلى حد ما جزءا منه.
فحينها كنت أشارك في هذا الصراع المحتدم بين العقيدة الأشعرية والسلفية، وتقديم العقيدة السلفية على الأشعرية، والعمل بعقيدة السلف، والاكتفاء بها.
ويرجع ذلك إلى اهتمامنا بالحديث، وامتلاكنا ثقافة في الأدلة الشرعية، حيث كنا قد بدأنا نهتم بثقافة الدليل، ونقتني بعض كتبه منذ الصراع الأول في منتصف السبعينات، وشخصيا بدأت آخذ كتب الدليل، وأتعهد بلوغ المرام وغيره من كتب الحديث قبل مجيئي إلى نواكشوط، أي في حدود سنة 1977م، و1978م، ولكن هذه الثقافة لم تنضج ولم ترق إلى مستوى يزيد على الاهتمام إلا بعد سفري إلى نواكشوط، واقتنائي للكتب التي أعطانيها الأستاذ محمد الأمين الشيخ جزاه الله عني خيرا.
والمجتمع عموما شهد ثلاث فترات للصراع:
صراعا أولا بين أنصار الدليل، والمقلدين من الفقهاء، شمل فترة السبعينات، وبعضا من فترة الثمانينات.
وصراعا شمل فترة الثمانينات كلها تقريبا بين العقيدتين الأشعرية والسلفية.
وصراعا ثالثا يتعلق بموضوع الدعوة كوسيلة، باعتبارها محاضرات ودروسا، وبدأ هذا الصراع من نهاية الثمانينات وحتى وسط التسعينات.
وكان المجتمع في كل من هذه الصراعات يصل إلى مستوى من التصالح بين أطراف النزاع فيه، يتسم بمستوى من الوسطية والاعتدال.
ففي الصراع الأول توصلوا أخيرا، إلى أن الفقه لا بد منه، ولا غنى عنه، وإلى أن الدليل هو الأصل، والأصل أن لا يخالف الفقه الدليل، وهكذا.
وفي المرحلة الثانية، توصلوا إلى أن العقيدة السلفية هي العقيدة الأصح والأسلم والأقوم، والأولى بالتقديم والإتباع، وأن العقيدة الأشعرية إحدى عقائد أهل السنة ولها بعض الأخطاء.
وفي المرحلة الثالثة لم تبدأ الدعوة إلا في نهاية الثمانينات، وعموما أصبح مقبولا بها، بعد أن استنكر الناس أسلوبها الجديد.
وفي فترة التسعينات بعد المسار الديمقراطي حدث صراع رابع، حول العمل السياسي، أهو من الاهتمامات الشرعية التي يخاطب الإنسان فيها وفق قواعد الشرع وأسسه ومبادئه، فيخضع بذلك لتدينه، أم هو من مصالح البحتة للقبيلة التي تخضع لمصلحتها الخاصة بغض النظر عن التدين والموقف.
وما زال بعض هذا الصراع مستمرا، وما زال التساؤل؛ هل السياسية من الدين أم من الدنيا فلا تخضع للمواقف الشرعية، وهذا الصراع هو أعمق هذه الصراعات، ولا يقاربه إلا الصراع الأول حول التقليد.

السراج: تحدثتم عن الوالدة..فأين كان الوالد في هذه الفترات؟


ولد أحمد باهي: الوالد من أهل القرآن الكريم، والعلم والفقه، ويبحث في الأدلة، وله معرفة متوسطة باللغة العربية، وله فهم جيد في الأحكام، وكان في مرحلة من المراحل ترجع إليه الفتوى وقراءة الكتب في المجتمع، ولكنه لم يطمح إلى مزيد من العلم والطلب.
لكن الوالدة هي التي درستنا القرآن بنفسها، وأشرفت على تدريسنا الفقه والنحو والعقيدة، وساعدتنا على الدعوة والعقيدة والتوجه والفكرة، وكانت لنا سندا، وكان الوالد سندها في ذلك، وكان يرضاه لها، فكان يدعمنا عن طريقها، وكان لا يرى ضرورة للتدخل لأنها كانت مهتمة بالعلم بشكل كبير.
وعموما فاهتمام الآباء في منطقتنا بتعليم الأبناء محدود، ويكاد يكون الشقاق الذي يقع بين الآباء والأمهات في أغلبه ناتجا عن الخلاف حول تعليم الأبناء.
إذ الآباء غالبا ما يسعون لأن يبقى الأبناء معهم يعينونهم في الكد وجمع المال، ويساعدونهم في أمور البادية ومهماتها الصعبة، والأمهات يأبين ذلك ويردن لأبنائهن التعلم والأخذ قبل أن يفوت الآن فيقع الخلاف بسبب ذلك.
وخير الرجال من يسكت ويرضى ما تفعله زوجه من اهتمام وإشراف على التعليم، وكان والدنا من هذا النوع، وكان لا يضربنا، ومع ذلك كنا نخافه جدا، وإذا أراد توجيها حتى بعد بلوغنا أوصله إلينا عن طريق الوالدة، وكان يحب الحرية لنفسه، ويعطيها للآخرين.

السراج: ماذا عن الرحلة 1984 إلى نواكشوط؟


ولد أحمد باهي: كانت رحلة عادية وبسيطة، جئت إلى نواكشوط، في أكتوبر 1984م، فوجدت المعهد العالي ينظم مسابقة دخوله، فشاركت فيها ولم أنجح ولم أحصل على المعدل.
وكان سبب هذه النتيجة راجعا لأمرين:
الأول: نقص المعلومات التي حصلت عليها، فلم أدرس كما تقدم ما يكفي لمنافسة طلبة المحاظر الذين يتقنون المعارف الشرعية واللغوية، وكانت معظم المعارف التي تدرس في المحاظر حينها يسأل عنها في المعهد العالي.
والسبب الثاني: أنها كانت أول تجربة في كتابة الامتحانات بشكل مباشر، فكان نقص المعلومات، وضعف الأداء في الامتحان سببا في ضعف النتيجة التي حصلت عليها وهي: 90من 200 نقطة.
وفي نفس السنة: أعلن عن مسابقة معهد ابن عباس وكان في هذه السنة قد فتح ودشن، فأجريت مسابقة معهد ابن عباس، فشاركت في هذه المسابقة ونجحت فيها متفوقا، وكنت السابع في الترتيب، لا بل كنت الثامن من شعبة الفقه وأصوله، ولكني تحولت عنها إلى شعبة القرآن والحديث فكنت السابع فيها.

السراج: ما سبب التحول من شعبة الفقه وأصوله إلى شعبة القرآن والحديث؟


ولد أحمد باهي: يرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل:
منها البيئة التي تربيت فيها، والتي كانت تهتم بالدليل والتأصيل والكتاب والسنة. ومنها عدم الرغبة الشخصية في الدراسة في تلك الشعبة، لأن مختصر خليل كان مقررا فيها.
ومنها أنني لم أكن أجد النشاط الكافي لدراسة مختصر خليل، ليس رغبة عنه، وإنما كنت غر مستعد نفسيا لدراسته، وكنت أميل إلى الدليل والقرآن والحديث أكثر.
وإلى الآن لم أدرس مختصر خليل، رغم أني أكثر مطالعته، ومطالعة شراحه، وأرجع إليها في بعض الأحكام، ولكنني للأسف، وبسبب التربية الأولى لم أقرأ هذا الكتاب إطلاقا لا في المحظرة ولا في المعهد، وذلك نتيجة البيئة التي كان لها في تأثير كبير.

السراج: وماذا عن المعهد في هذا العام؟


في هذا العام كنا ندرس في خيام من البلاستيك قرب المسجد، وكانت سنة دأب وجد بامتياز، فكنا نهتم ونحضر ونحضِّر، وذلك بسبب كفاءة الأساتذة الذين كانوا يدرسوننا.
ففي هذه السنة، كان يدرسنا الأستاذ محمد المختار ولد امباله، وكان يدرسنا الفقه من خلال نظم ابن أبي زيد، فدرسنا حوالي ربع الرسالة، ومن خلال هذه الرسالة كان تدريسه رائعا، واحتفظت بدفتر دروسه وإلى عهد قريب كان موجودا عندي.
ودرسنا الأستاذ الحسن ولد مولاي اعلي، كان يدرسنا عمدة الأحكام، وكان تدريسه جيدا بل رائعا، وكان أيضا أستاذنا في التفسير، وكان أستاذنا أيضا لعلوم القرآن.
وأذكر أن تدريس هذين الأستاذين وجدهما ودأبهما كان الغاية في الروعة، فما أتذكر خلال هذا العام أن أيا منهما غاب عن أي حصة إطلاقا، فمر العام كاملا بدون غياب أي منهما عن أية حصة.
وأنا شخصيا خلال هذه السنة، ما أتذكر أني غبت عن درس إلا عن حصتين متفرقتين بسبب أسباب قاهرة.
وكان يدرسنا أستاذ العلوم واسمه عبد الله، وكان بعد ذلك مديرا لمدرسة تكوين الأساتذة، لا يحضرني الآن اسمه الكامل، كان يدرسنا العلوم الطبيعية، وهي ثقافة يحتاجها أهل المحاظر، فدرسنا مقرر السنة الثالثة الإعدادية، وكان يدرسنا جسم الإنسان، وغيره من مقررات مادة العلوم، وكان دفتر دروسه في غاية الروعة وكنا نحفظ الدرس والرسوم التي فيه كلها، فنحفظ كل جسم الإنسان، ونستطيع أن نرسم أي جزء منه بشكل دقيق وكامل.
وكنا ننهي الامتحان الذي من ست صفحات، وفيه بعض الأجهزة المختلفة كنا نكمله في ساعة أو أقل.
وكان يدرسنا أيضا الفرنسية أستاذ محضر جيد، وكنا نتقن الفرنسية خلال تلك السنة، لولا أن أستاذا آخر حل محله، لا يتحلى بكل جده ودأبه وقدرته على التوصيل. وللأسف لم يحضرني اسمه، وما كان علي أنساه.
وعموما كان الأساتذة والتلاميذ جادون، وكان الجد الطابع العام للجميع، وكانت سنة جد مميزة.
وكنا نتوقع في نهاية السنة أن ننهي المقرر وأن يكتمل بنيان المعهد، ولكننا فوجئنا في النهاية بتأخر في بعض المقرر، فبعض الأساتذة لم يكملوا المقررات، وأيضا فوجئنا بأن بنيان المعهد لم يكتمل فأصابنا لذلك بعض الكسل والإحباط.
فكان بعض التلاميذ يقول لي:
معهدن ذا اللان وانت
هون اومن دون المدير
بنيان متأخر حت
والمقرر فيه التأخير
فأصبنا بعض التأثر النفسي.
وفي السنوات الثلاث التالية كنا قد أصابنا بعض من الكسل، ولم يعد الحسن ولد مولاي اعلي يدرسنا، ولم يعد أيضا محمد المختار ولد امباله يدرسنا هو الآخر، فجاءنا أساتذة آخرون ليست لهم نفس الخبرة والجدية والقدرة على التعليم والتوصيل، فضعف الاهتمام بالمعهد والانتماء له وضعف الحضور، ولم نعد نهتم بالمقررات الاهتمام الذي كان في المرحلة الأولى.
فانصرف اهتمامنا إلى المطالعة، والبحث وقراءة الكتب، ومع ذلك كنا نشارك في الامتحانات وننجح متفوقين إلا أن الحضور والجدية التي كانت عندنا ضعفت بشكل كبير.
واستمر الأمر على هذا حتى التخرج، وقد تخرجت من المعهد متفوقا بدرجة تقدير جيد جدا، وكان ترتيبي الرابع في المعهد على ما أذكر.
وكنت قد شاركت في الباكالوريا الحرة سنة 1987 وحصلت عليها، وسجلت في كلية القانون وتجاوزت السنة الأولى من كلية القانون، وفي السنة الثانية لم أتجاوز، بسبب مادة القانون المدني، حيث كانت أسئلتها مباشرة، وهي كما رياضية بمعنى (1+1) كما يقال.
بينما في المواد الأخرى كنا قد حصلنا ثقافة متميزة في بقية البرنامج من قانون إداري وجنائي وعلاقات دولية..
لم أعد إلى القانون بعد ذلك ففي سنة 1989م نجحت في مسابقة مباشرة لاكتتاب الأساتذة –أساتذة التعليم الثانوي- ونجحت فيها فحولت إلى النعمة، وهي مدينة نائية فلم أستطع إكمال دراستي القانونية بسبب ذلك وبسبب ضعف الهمة والانشغال بالدعوة.


السراج: لما ذا اختيار كلية القانون بالضبط؟


بالطبع أنا كانت لدي في فترة ابن عباس اهتمامات كبيرة بالأدب، وعندما أخذت الباكلوريا قلت: الجانب الشرعي موجود من خلال المعهد والمحظرة يكلمه القانون، والجانب الأدبي وعلوم هواية ومطالعة لا أحتاج إليه.
ولذلك عندما بدأت التدريس في التعليم والتي استمرت 20 سنة كنت في معظمها أدرس مادة اللغة العربية والأدب.


                                                                                                                                               يتواصل..

السراج يجري مقابلة شاملة مع الداعية ولد أحمد باهي (ح1)

السراج TV