إشكالية الفهم القانوني للدين/أحمد أبور تيمة |
السبت, 07 سبتمبر 2013 04:35 |
القانون هو مجموعة من الضوابط والعقوبات والالتزامات تمثل الحد الأدنى لإدارة علاقات الناس، لكن الحياة أوسع من القانون، والأساس هو تشجيع اختيارات الناس الحرة وخلق التنافس بينهم لتحقيق أكبر قدر من الخير والعدل، أما المجتمعات التي تلتزم بحرفية القانون وتميت روحه فهي مجتمعات لا حياة فيها، هي أشبه بمعسكر تجنيد تقوم العلاقة فيه على الانضباط وتنفيذ الأوامر.. القانون وحده حسب تعبير عفراء جلبي يشبه مدينةً تدخلها فلا ترى فيها إلا قسم الشرطة والسجون، ولا تقابل فيها إلا القضاة والمحامين. بينما يغيب عنها الفن والعلوم والاختراعات، والعلاقات الإنسانية والجماليات والأدب!!. القانون حدي بينما الحق والخير والعدل كميات قابلة للزيادة لذا فإن صاحب العقلية القانونية يسجن نفسه في صندوق ضيق، ويعيش حياته وفق مبدأ الواجبات وحدها بدل أن يفيض قلبه بالخير والعدل التلقائي.. من آثار العقلية القانونية ما نجده في فهمنا للدين حيث اختزلنا الفقه في أحكام حدية من قبيل: "فرض- حرام" ، "يجوز - لا يجوز"، وغاب عنا أن الدين أوسع من هذا بكثير، وأن هناك مقاصد كبرى لا يمكن ضغطها في فتاوى تفصيلية، هذه العقلية القانونية أثبتت عجزها في تحقيق رسالة الدين النفسية والاجتماعية والحضارية، ذلك أن الحدية التي تتسم بها تتناقض مع طبيعة القرآن ذاته وتتناقض مع طبيعة الحياة كذلك، فالقرآن يترك لنا في معظمه مساحات مفتوحة للارتقاء الروحي والأخلاقي دون أن يسجننا في اختيارات ضيقة صارمة: " فاتقوا الله ما استطعتم"، "هو أقرب للتقوى"، "أقسط عند الله"، "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" " وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم"،... هذه الآيات تعني أن ميدان الخير والحق والعدل غير محدود بل يقبل التنافس والزيادة، والبشر كذلك متفاوتون بطبيعة الحال تختلف طاقاتهم الاستيعابية اختلافاً شاسعاً: "فسالت أودية بقدرها"، فلو كان الدين واجبات ومحرمات وحسب لما كان هناك فرق بين أبي بكر الصديق وبين أدنى رجال هذه الأمة ممن يقيم الفروض ويمتنع عن المحرمات، لكن الذي حقق الفضل لأبي بكر هي دائرة التنافس المفتوح التي تركها القرآن لتحقيق الاختيار الإنساني دون إلزام...
إن تحويل الدين إلى مجموعة من الأحكام الفقهية يفرغه من دوره الحيوي ويعزله عن حياة الناس ويجعله شيئاً ثانوياً تكميلياً لا يفتقده الناس في صميم انشغالاتهم بالحياة، ذلك أن الحياة بصخبها وتماوجها أكبر من مجموعة أحكام معلبة، والناس حين لا ترى في رسالة الدين ملامسةً لمشكلاتهم الواقعية فإنهم سيعدونه ترفاً فكرياً وطقوسياً يلجأون إليه في المناسبات ويتركونه في غمرة انشغالاتهم وحينها سينتج الانفصال الخطير القائم الآن بأن هذا دين وهذه دنيا وذلك لأن الدين بالشكل الذي نطرحه لا يعمل إلا في مساحة محدودة ومن ثم فهو لا يقدم إجابات مقنعةً لأسئلة الحضارة والعلم والمجتمع... حصر الدين في الأحكام الفقهية يقعدنا عن التزاماتنا الأخلاقية الإنسانية لأن الإنسان الذي ينتجه هذا الفقه الممسوخ سيتعامل مع الحياة بأنها واجبات وحسب ولن يتجاوز هذه الواجبات فستنطفئ فيه الروح الحية المتفاعلة.. إن مثل هذا الإنسان تماماً كمثل الطالب الذي ينسى أن هدفه هو تحصيل العلم فيصير همه مقتصراً على تأدية الواجبات التي يفرضها عليه معلمه وإن واتته فرصة لزيادة كسبه العلمي وتطوير مهاراته خارج دائرة الواجبات المدرسية فسيتقاعس عنها وكذلك الإنسان الذي ينتجه الفقه التقليدي فسيتعامل مع الحياة بأنها واجبات وحسب فإن أدى هذه الواجبات فلن يشعر بالتزامات أخلاقية تجاه مشكلات الظلم والفقر واختلال موازين العدالة التي يرزح تحت الناس في مشارق الأرض ومغاربها... إن الذي جاء بالفتاة الأمريكية ريشيل كوري إلى رفح لتناصر الفلسطينيين الذين يختلفون معها في الدين والجعرافيا واللغة والقومية ولتتصدى لجرافات الاحتلال وتقدم حياتها ثمناً لهذا الموقف الأخلاقي لم يكن فتوى سمعتها من أحد رجال الدين إنما أخرجها إحساسها الفطري بالالتزام الأخلاقي تجاه المظلومين في العالم، وربما يكون تحررها من هذه الفتاوى المنمطة عنصراً إيجابياً في تحفيز شعورها الأخلاقي الإنساني..ما أردت قوله من ضرب هذا المثل هو أن الإنسان بعفويته وفطرته يكون أقرب لتحقيق رسالة الدين في نصرة الحق والعدل من ذلك الذي تسجنه الأنماط الجاهزة والأحكام الفقهية الحدية، ولعل هذا يفسر لنا لماذا لم تولد ظاهرة ريشيل كوري في بلاد المسلمين فلا نجد نشطاء مسلمين يذهبون إلى بلاد غير إسلامية لمناصرة أهلها في الحق، وذلك لأن عقلية الواجبات والمحرمات التي رسخها الفقه التقليدي في نفوسنا أطفأ التفاعل المباشر مع قضايا المظلومين في العالم فصار أحدنا يظن أنه بتأدية الفروض قد أعفى نفسه من المسئوليات الأخلاقية في هذا العالم.. الفقه القانوني فقه غائب عن العصر الذي نعيشه وهو قد خذلنا عن تقديم خطاب حضاري إنساني قادر على تحقيق غايات الدين الكبرى المتمثلة في الرحمة للعالمين وليقوم الناس بالقسط!! |