إشكال مخرج حرف الضاد(4)/أحمد سالم ولد زياد
الثلاثاء, 08 أكتوبر 2013 04:00

altaltويقول ابن الجزري "" : (( والضاد انفرد بالاستطالة ، وليس في الحروف ما يعسر على اللسان مثله ، فإن ألسنة الناس فيه مختلفة ، وقل من يحسنه ، فمنهم من يخرجه ظاء ، ومنهم من يمزجه بالذال ، ومنهم من يجعله لاماً مفخمة ، ومنهم من يشمه الزاي . كل ذلك لا يجوز )

 

وكل هذا الذي حكاه ابن الجزري ، روت لنا كتب الإبدال طرفاً منه ؛ فمن أمثلة الضاد والظاء ما حكاه أبو الطيب اللغوي في كتابه الإبدال ( 2 / 270 ) من قوله : ( الحَضَل والحَظَل : فساد يلحق أصول سعف النخل ). ومن أمثلة الضاد والذال ( الإبدال 2 / 16 ) : ( ما ينبض له عِرْقٌ نبضاً ، وما ينبِذ له عرق نبذاً . وقد نَبَض العرق ينبض ، ونبذ ينبذ : إذا ضرب ) ومن أمثلة الضاد واللام ( الإبدال 2 / 277 ) : ( تقيَّض فلان أباه وتقيَّله تقيَضاً وتقيّلا : إذا نزع إليه في الشبه ) . ومن أمثلة الضاد والزاي ( الإبدال 2 / 138 ) : ( أنا على أوفاز وعلى أوفاض : أي على عجلة).

ويحدثنا اللغويون عما سموه ( بالضاد الضعيفة ) وهو من مظاهر عدم تمكن بعض العرب القدماء من نطق الضاد التي عرفنا وصفها من قبل ؛ يقول ابن يعيش : ( والضاد الضعيفة من لغة قوم اعتاصت عليهم ، فربما أخرجوها طاء وذلك أنهم يخرجونها من طرف اللسان وأطراف الثنايا ، وربما راموا إخراجها من مخرجها ، فلم يتأت لهم فخرجت بين الضاد والظاء "" ) .

وقد وصلت إلينا بعض الأخبار التي تؤكد لنا أن الناس كانوا يخلطون الضاد بالظاء في بعض الأحيان ؛ فقد روى أبو علي القالي أن رجلاً ( قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين أيضحى بضبي ؟ قال : وما عليك لو قلت : بظبي ؟! قال : إنها لغة . قال : انقطع العتاب ولا يضحى بشيء من الوحش "".

كما سجل الجاحظ مثل هذا الخلط بين الضاد والظاء في كتابه البيان والتبيين ( 2 / 211 ) : ( فقال : وزعم يزيد مولى ابن عون ، كان رجل بالبصرة له جارية تسمى ظمياء ، فكان إذا دعاها قال : يا ضمياء بالضاد ، فقال ابن المقفع : قل ياظمياء ، فناداها : ياضمياء ، فلما غيّر عليه ابن المقفع مرتين أو ثلاثاً ، قال له : هي جاريتي أو جاريتك ؟ ) .

ويذهب المستشرق ( برجشتراسر ) إلى ( أن نطق الظاء كان قريباً من نطق الضاد وكثيراً تطابقتا وتبادلتا في تاريخ اللغة العربية . وأقدم مثل لذلك مأخوذ من القرآن الكريم ، وهو (( الضنين )) في سورة التكوير ، فقد قرأها كثيرون بالظاء مكان الضاد التي رسمت بها في كل المصاحف . وممن قرأها بالظاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما قال مكي في كتاب الكشف "" : ومما لا شك فيه أن العرب القدامى في البيئة القرشية ، كانوا يفرقون بين الضاد والظاء ، بدليل أن الكتابة العربية التي شاعت أول ما شاعت في قريش"" ، فرقت بين الصوتين في الصورة الموضوعة لكل منهما ) .

ويقول الدكتور إبراهيم أنيس "" : ( لا يخالجنا الآن أدنى شك في أن العرب القدماء كانوا في نطقهم يميزون هذين الصوتين تمييزاً واضحاً ، ولكنهم فيما يبدوا كانوا فريقين : فريق يمثل الكثرة الغالبة ، وهؤلاء هم الذين كانوا ينطقون النطق الذي وصفه سيبويه . أما الفريق الآخر فكان يخلط بين الصوتين . وهذا الخلط الذي وقع في بعض اللهجات المغمورة ، إنما كان سببه أن هذين الصوتين ـ على حسب وصف سيبويه لهما ـ يشتركان في بعض النواحي الصوتية ، أو بعبارة أخرى كان وقعهما في الآذان متشابها . ولعل مما يستأنس به لهذا التشابه بين الصوتين في النطق القديم ، وقوعهما في فاصلتين متواليتين من فواصل القرآن الكريم "" ، مثل ما جاء في سورة فصلت (41 / 50 ـ 51 ) قال تعالى : ( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ؛ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) .

ولعل هذا الخلط بين صوتي الضاد والظاء كان قد شاع في القرن الثالث الهجري ، وكان هو السر فيما ذهب إليه أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي اللغوي المشهور ( توفي سنة 231 هـ ) من أنه يجوز عند العرب أن يعاقبوا بين الضاد والظاء ؛

فقد روى ابن خلكان "" أن ابن الأعرابي كان يقول : ( جائز في كلام العرب أن يعاقبوا بين الضاد والظاء ، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع هذه . وينشد :

إلى الله أشكو من خليل أوده * ثلاث خلال كلها لي غائض

بالضاد ( بدل غائظ ) ، ويقول : هكذا سمعته من فصحاء العرب ) .

ويزعم ابن جني أن ذلك ليس من باب المعاقبة ، وإنما هي مادة أخرى فيقول : ( وأما قول الشاعر :

إلى الله أشكو من خليل أوده * ثلاث خلال كلها لي غائض

فقالوا : أراد ( غائظ ) فأبدل الظاء ضاداً .

ويجوز عندي أن يكون غائض غير بدل ، ولكنه من غاضه : أي أنقصه ، فيكون معناه : أي ينقصني ويتهضمني ) .

ولقد كانت محاولات بعض من ألف في موضوع الضاد والظاء من اللغويين العرب ، منحصرة أحياناً في تنبيه الكتاب حتى لا يخلطوا الضاد بالظاء في خطوطهم متأثرين في ذلك بنطقهم الذي كان من العسير إصلاحه ، فنحن نرى مثلاً الزنجاني ( انظر فيما يلي حديثنا عن تراث الضاد والظاء ) يقول : ( هذا كتاب معرفة ما يكتب بالضاد والظاء معاً والفرق بينهما في الخط والهجاء ، إذا كانا على بناء واحد وصورة واحدة في اللفظ ) كما يقول الحريري : ( ما اشتبه لفظه واختلف كتابه لاختلاف معناه ) . كما تذكر المصادر عن القفطي أنه ألف ( كتاباً في الضاد والظاء ، وهو ما اشتبه في اللفظ ، واختلف في المعنى والخط ) .

ولم يحاول منهم إلا أبو بكر الصدفي أن يفرق بوضوح بين نطق الضاد والظاء حين قال : ( . . لتستدل به على بعض ما التبس على بعض المسلمين بالفرق بينهما من إبانة الظاء بإظهار طرف اللسان في النطق بها ، ورفعك رأسها عند كتابتها ، وضم الأسنان على الضاد ، وميلك باللسان إلى الأضراس من ناحية الشمال ، فيفرق بينهما في خطهما).

ونحن نرى أثر هذا الخلط بين الضاد والظاء في بعض البلاد العربية في أيامنا هذه ، فقد سبق أن أوردنا ما حكاه الدكتور أنيس عن نطق العراقيين للضاد نطقاً مشابهاً لنطق الظاء .

وليس هذا الأمر خاصاً بالعراقيين فحسب ، بل إن أهل تونس يخلطون في أيامنا هذه بين الضاد والظاء ، فينطقونها قريبين من الظاء ، وكان زميل تونسي بجامعة ميونخ يسألنا إن كانت هذه الكلمة أو تلك تكتب بالظاء المشالة أو غير المشالة ! وهو يقصد بالمشالة التي فوقها ألف ، وهي الظاء المعروفة ، وبغير المشالة : الخالية من هذه الألف في الخط ، وهي الضاد المعروفة .

كما يقول كانتينو "" : ( وقد صارت الضاد ظاء في الألسن العربية الدارجة العصرية عادة واستوت تماما في الظاءات الأصلية في اللغة ، فنشأ عن ذلك كيفيات مختلفة في نطق الضاد مماثلة لمختلف كيفيات نطق الظاء في العالم الناطق بالعربية ، فتنطق في اللهجات المغربية ظاء ودالاً مضخمة وطاء ، نحو : ظرب وضرب وطرب ، في : ضرب ) . وفي كلامه هذا تعميم لا يصح ، وإن كان مأخوذاً من اللهجات المغربية . غير أنه يعود فيقول : ( وأكثر أنواع نطق الضاد في الفصحى شيوعاً هو نطقها كالظاء ، إذا كان في لهجة المتكلم حروف ما بين الأسنان " الذال والثاء والظاء " ، وكالدال المضخمة إذا انعدمت من لهجته تلك الحروف ).

أما الضاد القديمة فقد عرفنا من قبل أن هناك نطقاً يشبهه عند أهل حضرموت ، وهو كاللام المطبقة ، فيما ذكره المستشرق ( برجشتراسر ) .

ويضيف الدكتور خليل نامي إلى ذلك أن ( هذا النطق موجود أيضاً في لهجات منطقة ظفار كالمهرية والشحرية ، كما هو مجود أيضاً في منطقة دثينة بجنوب بلاد العرب ، وهو موجود أيضاً في لهجات الجزيرة بالسودان "" ) .

ونختم هذا البحث بمناقشة الحديث الذي ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنا أفصح من نطق بالضاد ) ، فنقول : لم يرو هذا الحديث في كتب الحديث الصحيحة . وقال عنه ابن الجزري "" : ( والحديث المشهور على الألسنة : أنا أفصح من نطق بالضاد ، لا أصل له ، ولا يصح ) .

إشكال مخرج حرف الضاد(4)/أحمد سالم ولد زياد

السراج TV