الردة عن الحرية [ح:14] (الواجب الدعوي إزاء تطور القضية)/د. محمد أحمد الراشد
الأحد, 24 نوفمبر 2013 03:07

الراشدالراشدالواجب الدعوي إزاء تطور القضية

والآن: يبرز سؤال: إلى أين نسير؟ وكيف نسير؟

وواضح أن القضية خطرة ومعقدة، ولذلك ليس من الصواب الارتجال والتسرع في وضع خطة الاستدراك، وعلينا الإذعان لحقيقتين:

·الأولى: أن لا يضع الخطة فرد، بل مؤتمر لإخوان وعاة عركتهم التجربة، بعضهم من أهل العلم السياسي يكون، وبعضهم من أهل العلم الشرعي، وبعضهم من التربويين، مع عناصر تخصص، مثل عسكري، وخبير تخطيط استراتيجي، وعالم نفسي، وإعلامي، وخبراء رقميات، مع مشاركة بعض الأخوات.

·الثانية: أنه من الواضح أن الرؤى والاقتراحات التي سيقدمها المجتمعون ستكون متباينة، وبعضها يخالف بعضاً، إذ هكذا شأن العقل البشري، وكل أحد يتأثر بنوع ثقافته وظروفه وتجربته الخاصة، ولذلك يستعان لا بالتصويت فقط، بل بحكم بعض العناصر القيادية المخضرمة وبترجيحها لتوجه على توجه، ولنظرة على نظرة، واجتهاد على آخر.

·وأضيف حقيقة ثالثة: أن القضية تجاوزت أن تكون مصرية، وأصبحت قضية الأمة، ولذلك يجب أن لا تكون الخطة مصرية فقط، بل يكون الطواف على مائة داعية في أقطار العالم من المتميزين بفكر أو خبرة، ويكون جمع رؤاهم واقتراحاتهم والانتقاء منها.

 ومشاركة مني في اكتشاف الطريق والسلوك أقترح التوجّهات الخمسة التالية:

·أولاً: استمرار الحشد التظاهري السلمي، والحفاظ على سلميته على الرغم من تساقط مئات الشهداء، والصبر على لأواء البذل الجهادي وضرائب الانكار على المنكر وإن كانت دموية على هذا النحو البشع غير المسبوق، وبلغني في التويتر وجود كتاب ألفه خبير غربي يشرح فيه جميع التدابير الممكنة لجعل مظاهرات سلمية تطيح بالدكتاتوريات والحكومات التي تستعمل قوة السلاح في القمع، لذلك يكون التفتيش عن هذا الكتاب والاستفاده من مقترحاته.

وسبب الإصرار على المظاهرات: أنها تحولت إلى مدرسة ثورية شعبية، تغرس قيماً سياسية في قلوب وعقول الشعب وتعمل على تطوير أحاسيسه وعواطفه ومفاهيمه وأخلاقه الإيجابية، ونقلته من السلبية إلى التأثير، وذلك مكسب كبير في مسيبرة التطور السياسي، ولذلك يجب الحفاظ على هذه الوتيرة النافعة للحركة الإسلامية، فإن لها آثاراً مستقبلية عظيمة حتى لو اضطررنا بعد قليل لإنهاء المظاهرات رحمة بالناس إذا استمر القتل وإرهاب الدولة، فقد استقر الوعي الجديد في ذاكرة الشعب، وانتقل نجباء الناس من الانسحابية والتخوف إلى الشجاعة والمبادأة والمشاركة والثقة بالدعاة واستطابة بذل الروح في تحصيل الحرية، وذلك هو الشيء الذي كان يعوز معادلة العمل الدعوي، ومعنى ذلك: سهولة التعبئة النفسية الروحية للشعب أصبحت عالية المستوى، وتضاعف الوعي والتدين وفهم الأسرار والالتزام بالقيم والاطمئنان إلى كفاية دعاة الإسلام في أن يقودوا المسيرة، بل هي طفرة عالية ونقلة نابضة دافعة وليست مجرد زيادة، ونحن نقترب من تحقيق التفوق الاستراتيجي الحاسم بحول الله وفضله وقوته.

إنما شرط مواصلة النجاح: الحفاظ على سلمية المظاهرات والنشاط السياسي، وهو ما طلبه فضيلة الأستاذ المرشد وأركان قيادة الدعوة والحلفاء من علماء السلف ورجال الأحزاب، فك الله أسر السجناء منهم، والمفروض أن لا نبالغ في طاعة هذا الخيار فقط، بل أن يوقن الجميع أنه الخيار الوحيد الصائب اللائق لمصر هذه الأيام في هذه المرحلة، حتى لو صح غير ذلك في بلد آخر بتسويغ شرعي وواقعي، فإن ظروف مصر مختلفة، والعدو يريد أن نتورط بعنف ليضربنا، فيجب أن نفوّت عليه هذه الفرصة من خلال انضباط صفوف المظاهرات والانتباه لعناصر المخابرات المندسة بينهم التي تريد التحرش بالجيش والشرطة عمداً لإيجاد تسويغ لإبادة المتظاهرين والدعاة، والعاصم إنما هو الانتباه الدائم واليقظة والانضباط وتعليق الزهور على فوهات بنادق الجيش وعلى خوذاتهم وصدورهم، وتسليمهم رسائل عاطفية تبدي حبنا لهم كحراس للوطن والشعب، وكل معركة لم نخطط لها نحن ويريد غيرنا أن يجرنا إليها: فمعنى ذلك أنها كمين، فالحذر الحذر من الاستدراج.

والمظنون: أن أوساطنا جيدة الانتباه لذلك، والحكمة وافرة، والانضباط سائد.

ولكن السلبية الواضحة متمثلة في أن الخطاب الدعوي الثوري يبدي احتمالاً واحداً لنتيجة المظاهرات يجزم بأنها ستنجح في كسر الانقلاب وعودة الشرعية والحرية سريعاً، ومثل هذا الخطاب صحيح إذا أردنا به التحريك وتشجيع المتظاهرين وبث الحميّة فيهم ودعوتهم للبذل، ولكنه خطأ في التخطيط، فإن أحادية الخيار مجازفة إذا ازداد العدو لؤماً وأبدى الوحشية وبالغ في الإرهاب دفاعاً عن نفسه، ويجب أن يكون لنا خيار ثان نبدأ تفهيمه للناس ولجنود الدعوة، يتمثل في انسحاب وقتي إيجابي، يعقبه عمل تربوي وتداول فكري عريض بين طبقات الشعب كلها، ويكون تكليف الداعية الواحد برعاية وانضاج وتوعية الثلاثين أو الخمسين أو السبعين، فتتحقق تعبئة عامة عميقة لثلث الشعب، والثلث كثير، يصطف فيها المثقف مع العامل والفلاح والأمي والنساء مع الرجال، ولليافعين واليافعات من الفتية والفتيات مساحة كبيرة في الحشد، ثم يكون النفير الثاني الحاسم عندما تترنح الطغمة الانقلابية تحت تأثير أخطائها وانشقاقاتها، فإن أكبر خطأ في تخطيط العملية الانقلابية كان هو جعل الدولار الخليجي اليهودي الأميركي ركن تحصيل الولاء، فاشتريت الضمائر والذمم، فانفتح المجال واسعاً للخلاف بينهم على التوزيع والقسمة والحصص، وقد يكون ذلك خلال أشهر قليلة أو سنة أو سنتين على الأكثر، وخلالها سوف لا يلينون، بل يحاربون الدعوة والأحرار بشراسة ومكر وكذب إعلامي وأخلاقيات هابطة إلى مستوى النذالة والحقارة، وتكون المحنة والفتنة شديدة وقاسية، إنما في علم حركة الحياة ورصد وجود حكمة الله: تكون هذه الشدة هي الشرط الضروري لحصول الانفجار العظيم بعد الكبت الذميم، وحين تبلغ القلوب الحناجر: يتنزل النصر الرباني، وذلك باب من فقه الدعوة يميل إلى الواقعية وينتظر مسلسل معادلات الأقدار الإلهية أن تعمل.

وأنا لا أنفرد بفكرة وجوب اتخاذ الخيار الثاني، بل سبقني إليها فضيلة الشيخ القدوة محمد البحيري، في تعليق له في التويتر على بعض كلام للأستاذ عصام العريان، وذهب إلى التذكير بأن الفئة الانقلابية استندت إلى مكر دولي، وقد تستمر في ارتكاب الغي ولا تتنازل، وأن الواجب أن نترك جمهورنا يتوقع عجز المظاهرات عن نقض الانقلاب، والبديل أن ندعه يستعد لمعارضة طويلة الأنفاس وأن يتعلم المناورة وتكرار المصاولة، فذلك خير من أن يواجه صدمة إذا فشلت المظاهرات بسبب شدة القمع، أو قال قريباً من ذلك وليست هي حروفه، وإنما أدونها من ذاكرتي، وأنا معه وأوافقه جداً.

·ثانياً: تربية الدعاة وأنصار الدعوة وطبقة الموالين لها على قيم الاستعلاء الإيماني، والعفاف، وأخلاق الفروسية، والشوق إلى الموت في سبيل الله، فإن المرحلة أفرزت مفاصلة تامة الأوصاف بين الإسلاميين والجاهليين، ومطالعة كتابي: (النفس في تحريكها الحياة) مفيد جداً في هذا الباب، وكذا كلام سيد قطب رحمه الله في تفاسيره لسورة التوبة والأنفال والأنعام من الظلال، والمطلوب من الإعلام الدعوي ترويج هذه القيم والاستشهاد لها بالدلائل النقلية والعقلية.

وحين نقول: تربية الدعاة والأحرار على عشق الموت في سبيل الله: فأننا لا نعني أننا نسير إلى مواجهة قتالية، فإن السياسة التي اختارها مرشد الدعوة وقائدها سياسة سلمية، وحمل السلاح غير وارد أبداً، فإن الطواغيت تريد استدراجنا لعنف ليقضوا علينا، ولذلك يجب أن نتفلت ونضبط أهل الحماسة الزائدة ونمنعهم من التهور، ولكن نعني أن حمل السيف إذا كان واجباً على الأحرار إذا قرر القادة حمله: فإن مادون ذلك من التظاهر الذي فيه احتمال الموت بدرجة أقل كثيراً هو أكثر وجوباً، وهذه محاججة منطقية ضرورية للتوصل إلى هذا الاستنتاج، وفي الحسابات: أنه لو قدم الأحرار في الموسم السياسي 300 شهيد على مدى شهرين من التظاهرين: فإن معدل الاستشهاد هو 5 شهداء في اليوم. فإذا كان معدل الذين يتظاهرون يومياً هو 5 ملايين، فإن احتمال استشهاد المشارك هو بنسبة 0.00001% أي واحد بالمليون، بينما في القتال يرتفع إلى 50%، لأن مجاميع القتال تكون صغيرة العدد فتزيد النسبة جداً وتتضاعف ألوف المرات، وفي هذا ما يمنع اعتذار الحر من المشاركة في التظاهر، لأن احتمال الخطر ضعيف جداً، ومراعاة لهذه الحقيقة كانت الفتوى بمشاركة النساء والأطفال في التظاهر والضغط السلمي.

·ثالثاً: أن يبث الدعاة الوعي السياسي في الشعب عبر مختلف الوسائل الإعلامية والتربوية، ومعاني الإقدام والإيجابية والمبادأة والتحدي وصناعة الحياة، فقد أوضحت المعركة الأخيرة مدى الغموض والسرية في تحركات أعداء الحرية، ودخول عدد من الدول والملل على الخط، ويكون التعامل مع شخصيات لا نعرفها، وفجأة نكتشف عند صعودها بانقلاب أو اتفاق تصالحي أنها يهودية من جهة الأم، متل السيسي وعدلي منصور، أو بدعية متل محمود عباس البهائي، وهناك تحالفات دولية، وخطط استخبارية، وانظر كيف التقت مصالح روسيا والصين مع مصالح أميركا وإسرائيل وإيران في القضية السورية مع أنهم أعداء، ولذلك تجب المسارعة إلى تأسيس معهد دراسات سياسية واستراتيجية تابع للدعوة في كل قطر، يستطلع للدعاة أسرار السياسة، ويدون بحوثاً فيها صنعة توثيقية وتحليلية، ونشر هذه البحوث وشرحها للناس، لترتقي بالوعي السياسي للشعب، فيتوافق مع الدعاة في تشخيص الخطر قبل وقوعه، أو معارضته وإزالته بعد وقوعه، والشعب يريد أن يقتنع قبل أن يخطو مع المعارض ويشترك، بل ذلك من مصلحتنا حتى لو شارك الشعب ثقة بنا، فإن المشاركة الواعية أقوى بكثير من المشاركة العاطفية.

وليس هو الخطر فقط يجب أن يكون الدافع في التحرك، بل المصلحة وإدراك الحقائق التنموية، فالحرية التي نطلبها تحمل في ثناياها التوسيع على الناس، وزيادة معدلات دخولهم، وتضاعف الخدمات الحكومية لهم من علاج وتعليم ونقل وأمن، فنروي لهم كيف أن أردوغان وحزبه ضاعفوا معدل دخل الفرد التركي خلال 5 سنوات من ثلاثة آلاف دولار سنوياً إلى اثني عشر ألف دولار سنوياً، وأنه بنى ثلاثين جامعة وعشرات المستشفيات الكبرى، وشق أوسع الطرق والأنفاق، ووزع عشرين مليون (تابلت) رقمي وآيباد على طلاب المدارس مجاناً فيها كل الكتب المنهجية والمراجع والمعاجم، وأصبح الطالب مستغنياً عن حمل الكتب ومراجعة المكتبات، وانتقلت تركيا في عهده من دولة مدينة بأربعين مليار دولار إلى دولة دائنة للبنك الدولي بخمسة مليارات، وكانت أربعين مليار دولار أخرى من الديون قد سددها سلفه وأستاذه أربكان حين حكم، وفّرها من القضاء على الفساد الإداري، ثم نذكر كيف ارتقت الخدمات البلدية في كل مدن تركيا، وكيف صارت اسطنبول من أجمل مدن الدنيا وأرقاها بعدما كانت قبله متأخرة، وأنه صرف عليها ثمانية مليارات دولار في أربع سنوات من دخلها الذاتي لا من ميزانية الحكومة بعدما كان دخلها ينهبه الفاسدون، وبذلك تضاعفت موارد السياحة، والتجارة التصديرية، وحصل تعميم التأمين الصحي لكل عائلة تركية، وأعاجيب أخرى، منها مشروع قناة جديدة تربط البحر الأسود ببحر مرمرة ستكلف مع مقترباتها وتطوير جوانبها خمسمائة مليار دولار، لكنها تؤدي إلى دخل هو أضعاف ذلك، فهذه المقارنات التنموية توسع مدارك أبناء الشعب، وتجعلهم يطلبون الحرية والقيادة الإسلامية، وما عادت المواعظ الدينية تحرك الشعب، بل هي تحرك المتدين منهم فقط، وإنما تحركه التوعية السياسية والتنموية أيضاً، فما عادت الغفلة عن ذلك جائزة.

·رابعاً: ممارسة تطوير عام للدعوة في مختلف النواحي، وفي الإعلام والاستثمار المالي بخاصة، لأهميتها في إدارة انتفاضات الحرية، وما غلبونا في تجربة مرسي المؤلمة إلا بهذين السلاحين. والتطوير فن دقيق، ومجموعة خطط متكاملة، ومنهجيات تفصيلية، ولا يمكن التعريف بها هاهنا، ولكني أشير إلى أني بصدد تأليف ثلاثة كتب في التطوير الدعوي تشرح المقصود، وقد أنجزت الأول منها بحمد الله، وعنوانه: مقدمات الوعي التطويري، وسيصدر بحول الله للبيع الإلكتروني بعد شهر، ثم يصدر مطبوعاً بعد ذلك فوراً.

·خامساً: الإسناد العالمي العام لنقطة الانطلاق في مصر، فتكون المؤازرة من كل قطر كأنها شعاع نور في حزمة ليزر تجمع الأنوار وتركزها، فتكون لها قوة عجيبة تفتت الصخر وتثقب الفولاذ، فإن (مصر أم الدنيا) صِدقاً وحقيقة، وهي قائدة العالم الإسلامي، وإذا صلحت: صلح العالم، ولكن واجب كل قطر في هذا التعاون لا أحدده أنا ولا غيري، بل هي صنعة القادة في كل قطر، وهم أعرف بطاقاتهم وما يمكن تقديمه، فيكون منهم الاجتماع بعد الاجتماع حتى تنضج وتتضح خطة إسنادهم لمصر ويكون التوكل على الله.

 

 

يتواصل......................

الردة عن الحرية [ح:14] (الواجب الدعوي إزاء تطور القضية)/د. محمد أحمد الراشد

السراج TV