الحاجة لفقه المقاصد/أ. حنافي جواد
الخميس, 21 نوفمبر 2013 08:10

altaltعلم المقاصد:

علم عظيم يحتاج إليه المفسِّر والأصولي والفقيه والمفتي، يحتاجه سُراة القوم وسُوقتهم، مع اختلاف في درجة الحاجة؛ يقول الشيخ أحمد الريسوني في كتابه: "الفكر المقاصدي قواعده وفوائده": "قديمًا قالوا: مَن عرَف ما قصَد، هان عليه ما وجَد، فالإنسان حيث يُقدِم على عمل وهو لا يدري لماذا هذا العمل، ولا يدري النتائج التي يَسعى إلى بلوغها، والفوائد التي يَعمل لجَلْبها وتَحصيلها، ولا يدري قيمة ما هو فيه، وجَدْوى ما هو بصَدده، هذا الإنسان عادة ما يُصاب في عمله وسَعيه بتحيُّر واضطراب، أو بكللٍ أو مَللٍ، أو بضَجَرٍ وانقطاع" .

 

كما أنَّ الوقوف عند ماهيَّته وضوابطه حتْمٌ لازم؛ تحصينًا للنفوس من الزَّلل، وإبعادًا للعقل من الخَطل؛ إذ الجهل بضوابط المقاصد وخصائص الفكر المقاصدي الإسلامي، يوقِع في أشر الخطأ، فيكون ذلك وبالاً على العالم والعامي، فالعالم قصَّر، والعامي قلَّد.

 

وفوائد البحث في المقاصد جليلة، ومن أجَلِّها تنزيل النصوص على الواقع، فلولا المقاصد - بل الفقه في المقاصد - ما نزَل نصٌّ على واقع، ولا وقَع دواء على داءٍ.

 

لقد كانت المقاصد تَسري في رُوح السلف وعقولهم، معلِّمهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، اكْتَسَبوها من النصوص القرآنية والسُّنيَّة، ومن مشاهدتهم لنزول القرآن الكريم، ووقوفهم على أسباب وُرود السُّنة المُطهَّرة، فأكْسَبهم احتكاكُهم مَلكةً بها يحكمون، وإليها يتحاكمون.

 

لا يعني الأخذ بالمقاصد إهمال النصوص والتخلِّي عنها؛ فالنصوص هي الهدى والنبراس الذي يُنير الدَّرب نحو الهدف الواضح، إنه بريد السعادتين، فالنصوص بالطبع هي الأصل الأصيل والركن الركين، فكل مَن حاد عنها زاغَ عن الطريق المستقيم، طريق الذين أنعَم الله عليهم، غير طريق المغضوب عليهم ولا الضالين.

 

فما نَشهد ونشاهد اليوم إلاَّ بعض مفاسد الضلال عن النهج القويم، الراجع للجهل بالمقاصد والغايات من الخَلق؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

 

فالنصوص لن تتنزَّل على الواقع إلاَّ بآلة المقاصد، والواقع لن يَنصلح إلاَّ بالنصوص، والوصفة الإسلاميَّة للإصلاح تؤخَذ بالكلِّ لا بالجزء.

 

وتَجدر الإشارة إلى أن من الأحكام ما يقبل التعليل التفصيلي، ومنها ما لا يقبل إلاَّ التعليل الإجمالي، والجهل بهذا يشكِّل مُنزلقًا خطيرًا، وسنقف في مقال لاحقٍ - إن شاء الله - على الأحكام التي أُلْحِقت بما عُلِّل تعليلاً إجماليًّا، وكذا التي أُلْحِقت بما عُلِّل تعليلاً تفصيليًّا.

 

والإسلام أُنزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليطبَّق، وتنزيله يحتاج لآليات وتقنيات ومنهجيَّات مُستقاة من العقل الشرعي، ولسنا نُنكر الجهود الفاضلة لليقظة الإسلاميَّة، ولكن نُنَوِّه بأنَّ الصحوة الإسلامية لَم تتمكَّن بعدُ من زمام المنهج الذي يؤهِّلها للإحاطة الكلية بالقلوب والأبدان، وقد توافَر لَدَيها شرط من أهم شروط النجاح، وهو رسوخ الحقِّ في النفوس، رغم ما يُلحَظ من مخالفات وتجاوُزات.

 

وعلم مقاصد الشريعة الإسلامية علم جليل الأهمية، وفِقهه من الشروط اللازم توافُرها في كل مَن أراد التصدي للاجتهاد في الشريعة الإسلامية؛ لهذا وجَدنا الإمام الشاطبي قد ضرَب صفحًا عن تلك اللائحة الطويلة المحدِّدة لشروط المجتهد، واكتفى بشرطين اثنين لا ثالث لهما:

الأول: العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية.

والثاني: العلم بطُرق الاستنباط.

 

قال - رحمه الله - ما نصُّه: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لِمَن اتَّصف بصفتين:

إحداهما: فَهْم مقاصد الشريعة على كمالها.

الثاني: التمكُّن من الاستنباط بناءً على فَهْمه فيها" .

واعتبرَ الشرط الأول أصليًّا، والثاني تبعيًّا خادمًا للأول.

 

فالشرط الأوَّل هو السبب في بلوغ درجة الاجتهاد، فهو المقصود، أما الثاني فهو وسيلة إلى الأول.

 

لَم يركِّز الإمام الشاطبي على علم المقاصد إلاَّ لِمَا له من الأهميَّة في الاجتهاد، فهذا الشرط (فَهْم مقاصد الشريعة على كمالها)، يجمعُ كلَّ الشروط ويَحتويها، فهو لُبابها وقُطب رحاها.

 

نعم، إنَّ إهمال هذا العلم يُنذر بخطر على الشريعة الإسلامية إذا لَم يُدْرس دراسة جيدة، ولَم يُحَدَّد بحدود وضوابط تَمنع الجَهَلة والمتجاهلين من الخَوْض فيه، وهم يستغلونه لمجاراة أهوائهم ورغباتهم، ودَسِّ سمومهم.

 

فلا بد لدارس المقاصد من إطالة الدراسة والتأمُّل في ذلك، قبل أن يُثبت أو ينفي أنَّ للشريعة مقصدًا أو حكمة في هذا الحكم أو ذاك، وإلاَّ وقَع في الخطأ المؤكَّد، ونفى حيث يجب الإثبات، أو أثبَت حيث يجب النفي.

 

فعلى الباحث في مقاصد الشريعة أن يُطيل التأمُّل والتعمُّق، ويُجيد التثبُّت عند إثبات مقصد شرعي، وإيَّاه والتساهلَ أو التسرُّعَ في ذلك؛ لأن تعيين مقصد شرعي - كلي أو جزئي - أمرٌ تتفرَّع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط، ففي الخطأ فيه خطرٌ عظيم .

 

ولقد جعَل بعضهم علم المقاصد، أو مصطلح المقاصد، أو رُوح الدين - ذريعةً لتفكيك النصوص كما حلا لهم وطابَ، يضربون النصوص بعضها ببعض، ويقرؤونها قراءة أدبيَّة، بعيدة كل البُعد عن الرُّوح العلمية ورُوح الشريعة الإسلاميَّة، فيؤولونها تأويلاً فاسدًا، ويُحمِّلونها ما تطيق وما لا تُطيق، لا يَلتفتون إلى نص قطعي أو ظنِّي، بل إنَّ المصلحة في نظرهم فوق ذلك كله.

 

والواقف في وجه هذه المصلحة - أي مصلحة؟ - يُداس فيه، ويُرمى به عُرض الحائط، ودِرْعهم الواقي مقاصد الشريعة الإسلامية أو رُوحها، أو تسامح الإسلام ووسطيَّته.

 

إنّ علم مقاصد الشريعة سيف ذو حَدَّيْن، فهو ذو بالٍ إذا ما استُثْمِر الاستثمار الملائم، وَفْقًا لضوابطه وشروطه واعتباراته، وهو وبالٌ على الأُمَّة إذا ما استَغَلَّه المستغلون من الجهلة والمُغرضين، جاعلين هواهم شرعًا وعقلهم الفاسد منهجًا.

 

فهو علم التمكين:

اعلم - رحمك الله - أنَّ علم المقاصد علم نفيس، يُمكِّن لشرع الله ومنهجه في بلاده، وهو العلم الكفيل بتنزيل قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

 

فالحياة في تجدُّد وتغيُّر مستمرَّيْن، ولا بد لها أن تَنضبط بشرع الله، والنصوص كما هو معلوم معدودة في ألفاظها والوقائع غير محدودة، والقرآن لَم يفصل في كلِّ الأحكام والجزئيَّات، تاركًا المجال رَحبًا لاجتهاد المجتهدين، وإفتاء المُفتين من العلماء الربَّانيين، وقائدهم في المسيرة علم المقاصد: علم التمكين للدِّين في الزمان والمكان.

 

إنَّ البحث عن المقاصد يُنير طريق المُتَفقِّهين في الدين، والفقهاء، والمجتهدين، وكذا المفتين والمُنَظِّرين، وأهل القانون، والسياسة الشرعية، والمُكَلَّفين عمومًا، فأعظم به عونًا على التكليف.

 

كما أنه مرجع لَمَّا يحدث الاختلاف ويَحتد الجدال، ثم إنه مرجع ومُرشد وبوصلة عند تبدُّل الأمصار والأعصار، وعند إرادة ترجيح الأقوال، ونزول الحوادث، وهو الفصل في القول إذا تشاجَرَت حُجج المذاهب، فعَضَّ عليه بالنواجذ.

 

 

 

 

 

الألوكة

الحاجة لفقه المقاصد/أ. حنافي جواد

السراج TV