الردة عن الحرية [ح:17] (فوائد الانقلاب على الدعوة )/د. محمد أحمد الراشد |
الجمعة, 20 ديسمبر 2013 01:58 |
عاشراً: كشفت حادثة الانقلاب السُباعي الوجوه عن الدخلاء الذين اخترقوا الوصف والصف الإسلامي وتحدثوا دهراً بالإسلام كذباً، ويتمثلون بحزب النور السلفي على الأخص، فقد انفضح وسقط وانتهى وكَنَسَتْهُ الأحداث من طريق الدعوة، وسقط جُهلاء الأزهر بقيادة إمامهم الأكبر وعَرَفهم الشعب ووصفهم أنهم وعاظ سلاطين، وتخلّصت الدعوة من عدو يؤذيها وتـمْنعُها عواطف الناس وبساطة المصريين الطيبة الفطرية من الشكوى وذِكر اسم المؤذي، لما للأزهر من سمعة تاريخية، فعرف الطيبون اليوم بعد الانقلاب أنهم أمام عدوٍ معمم غير طيب. وكذلك تنقّى الداخل الدعوي من عناصر متأرجحة لم تـتمحّض وكانت تضع قَدَماً في الآخرة وقدماً في الدنيا وتعجز القيادة الدعوية عن اكتشافها وفصلها، لغلبة حسن الظن، وظنها وجوب الأخذ بالظاهر دوماً... ولتقوى القيادة حين تبالغ في العفاف فتتوقف عن اتهام مؤمن، مع أن بعض سوء الظن حَزم، لو لجأت إليه، فكانت الأقدار الخيرية نائبة عن القيادة الدعوية، وأغرت عبد المنعم أبا الفتوح أن يجمع هؤلاء النَفَر أهل الاختلاط وازدواجية الخطوات، وخرج بهم، فانكشف نصف انشكاف وللوعاة فقط، ثم أبت الأقدار إلّا أن تحجب بَصيرَتَه فشارك في اعتراضات 30 حزيران (يونيو) ثم في الانقلاب، فانكشف مائة بالمائة وأيقن كل مخلص من أبناء الشعب أنه اتبع هواه، ثم بعدما مَنَع الانقلابيون عنه المنصب واكتفوا بحفنة دولارات صحراوية أعطوها إياه: جاء يولول ويتهمهم بالاحتكار، وكأنه كان يظنهم أقرب إلى الملائكية مثل إخوانه السابقين الذين فتحوا له صدورهم وأحبّوه في الله ورَعَوْه وآنَسوهُ عند وحشة الطريق، والندم الآن يستبد بقلبه ويُتلفه ويدمره، ولكن هكذا يكلأ الله الدعوة بعينه التي لا تغفل ولا تنام، وكل هذه الحماية الربانية المتمثلة في انكشاف هذه الزُمَر الثلاث: حزب النور، والأزهر، والفتوحية: ما كانت لتكون وتـتحقق لولا انقلاب السيسي، فصار هذا الانقلاب خيراً على الإسلاميين من خلال سقوط الأقنعة الزائفة عن الوجوه البـشعة، وقيل: الحمد لله رب العالمين. ·الفائدة الحادية عشر: كنا نـتخوف من أن حزب الحرية والعدالة مع الأيام سيشعر باستقلالية عن الدعوة، وتتكرر قصة حزب مثيل في الأردن، أو قصة الحزب الإسلامي العراقي في شعوره الاستقلالي عن الدعوة، أو قصة أخرى جزائرية، والذي يحرك الشعور الاستقلالي في مثل هذه الحالات ليست النوايا، ولكنّ طبيعة الأداء السياسي تجعل رجال الحزب حين يتعاملون مع الفرقاء في الساحة على قناعات ربما لا تراها القيادة التي وكّلتهم عنها، فيكون الخلاف في النظر هو سبب الخلاف في الموقف ومحاولة التململ من قيود الارتباط بالقيادة الدعوية، ولكن عُنف الانقلاب وكونه (غزوة خارجية بَدوية بتخطيطات سِي آي أئِيّة) بدّل طبيعة الشعور الحزبي، وبدلاً من الجنوح نحو الاستقلالية حصل انعطاف عاطفي مضاف نحو المرشد المؤتمن ومكتب الإرشاد وعموم رجال القيادة الدعوية، واندمج الحزب بالكيان الدعوي أكثر وأكثر، وعرف الحزب أن التحامه مع الخط التربوي الإخواني والخط التـنظيمي هو ضرورة لتحصيل تحريك الناس لصالح خُطته، والدعوة تعيش اليوم أبهى حالات وحدتها الذاتية، وفي علم حركة الحياة: أن الخطر الخارجي يؤدي إلى توحيد الصف الداخلي دوماً، وقد أسدى الملوك جميلاً إلى الدعوة من حيث لا يشعرون. ! ·المصلحة الثانية عشر: نضوج الفكر السياسي في العالـمَيْـن العربي والإسلامي واكتماله ووصوله إلى درجات الإقناع العليا، وذلك أن (الانقلابات) كانت هي أكبر عوامل التكدير على مسيرات الحرية، واستطاعت الدعوة والأحزاب الوطنية التي تتوهم العلمانية في سعي مشترك من خلال المفكرين أن تـشيع ثقافة ضد الانقلاب العسكري كوسيلة سياسية، واللجوء بدل ذلك إلى الثورات الشعبية، فإنها أعمق أثراً وأكثر نجاحاً وأبعد عن انحراف ضابط من الضباط بالانقلاب ليـبـنـي دكتاتوريته الخاصة، وقد ساعد التطور المدني المعاصر على رواج هذه الثقافة وقلّت الانقلابات، ولكن إلى درجة غير تامة، وبقيت الأمة الإسلامية تحتاج دفعة أخرى من الوعي توصلها إلى مثل ما عليه أوروبا وعموم الغرب الديمقراطي من انعدام الانقلابات، وبقينا بين مُصدق ومكذب في اننا يوماً ما سنذوق الطعم الحلو لحياة سياسية خالية من احتمالات الانقلابات، وأن ثقافة صارمة ستلجم العسكريين عن المغامرات، وبقي الشك دهراً والقلوب واجفة راجفة، والناس بين راجٍ ويائسٍ، وإذا بالقدر الرباني يدخر للأحرار حادثة انقلاب السيسي السـيـئة الإخراج، القبـيحة في كل وجوهها، التي لم يحسنها آل سعود وآل نهيان، ومارسوها بفوضوية واضحة، وجعلوا ركنها الاعتماد على المجرمين والبلطجية وحثالات المجتمع، وبذلك حصل مَدَدٌ عالي المستوى لثقافة كبت الانقلابات، وكره الناس فكرة الانقلاب كراهية تحريم، ولعنوها معَنا، وصار الانقلاب الصحراوي هو الطلقة الأخيرة التي يطلقها التاريخ على جبـين الفكر الانقلابي لتخمد أنفاسه، وكانت حادثة الانقلاب هي الحادثة الهازّة الخاضّة التي تأذن بـبداية مرحلة انـتصار الدعوة، مما تكلمتُ عنه قبل أربعين سنة في آخر كتابي “المنطلق”، فليس هناك انقلاب بعد اليوم بإذن الله تعالى إذا سقط انقلاب السـيـسي، واليوم سـنـنافس بفكرنا المسـتمد من الوحي، وبكفاءتنا التي وفقنا الله إليها المسـتمدة من مدى قوة تـنظيمنا ومدى أخذنا بأسباب التطور، والتطور الإعلامي بخاصة، ولن يسرق الثورة بعد اليوم إذا أسقطنا السيسي مجرم انقلابي آخر، وهذه الأيام كأنها هي أيام بداية مرحلة الصندوق الانتخابي الحُر الذي لا يتلاعب به تزوير، وسأكون أنا والألماني والكندي والاسترالي والياباني سواء بسواء، لأول مرة في التاريخ، وتلك هي رحمة الله أنزلها علينا بعد حُسن الصبر الذي قابلنا به الآلام والدماء، ثم هي عطية محمد بن زايد للدعوة من حيث لا يشعر، وقد ارتكب الخطأ النافع لنا ومن المستحيل أن يستدرك، وحين سيخرج أحرار الإمارات من السجن: سيبهرهم زحفٌ إسلاميٌ هادر يملأ الآفاق تقوده (مصر .. أم الدنيا) فيأخذون مكانهم اللائق تحت اللواء، ويرتفع التكبير، وتُدوّي الجَنَباتُ بالثناء على الله الرحيم، ويقال: الحمد لله رب العالمين. ·المنحة الثالثة عشر: أن الإسلاميين كسبوا الإعلام العالمي إلى جانبهم بمقدار ما أساء الإعلام المصري المحلي الذي ارتكب المخازي وباع الضمائر بالكامل، فمجلة تايـم معنا، ومَدَحتنا وشرحت قضيتنا بحيادية صُحف: نيويورك تايمز، والجارديان، والديلي تلغراف، ومجلات: فورِن أفّيرس، وشبيغل أون لاين، وأدت قنوات الحوار والمستقلة والقدس، والقنوات التركية أدوارها بنجاح، ومالت قناة بي بي سي في أغلب أدائها إلى الصدق ونقلت صور حشودنا، وانحاز لنا كُتّابٌ كبار وفلاسفة عظام، مثل نعوم جومسكي، وروبرت فيسك، ونشرت مؤسسة حقوق الإنسان (هيُومَن رايتس) تقريرها الذي يدافع عنا، وحصل خيرٌ كثير لأول مرة في التاريخ المعاصر، وأما المواقع الإنـتـرنـيـتـية ومقالات الفيسبوك وتغريدات التويتر المؤيدة للشرعية ومرسي والدعوة فأكثر من أن يستوعبها إحصاء، وبكل اللغات، بينما المذمة تلاحق عصابة الحرامية السـبعة الذين عملوا الانقلاب، وبكل اللغات أيضاً. ·المصلحة الرابعة عشر: أن الملاحدة من علمانيي مصر، وطبقة السياسـيـين الانـتـهازيـيـن فيها، وعُتاة جنرالات الجيش المصري: كُلّهم قد انفضحوا لكل العالم، وصاروا مثال العدوانية والافتيات على حقوق الإنسان والكذب والظلم وبيع الضمائر بالمال، وكل ذلك ما كنا نـسـتـطيع زعمه أو البرهنة عليه بشكل مقنع، إذ لا وثائق لدينا، فلما حصل الانقلاب وأيدوه بل كانوا قادته: برزت قاعدة: من فمك أُدينك، ومن صورتك وموقعك وجلستك أجزم بإجرامك، ورأى الناس في كل العالم الفرق بين النموذجين: الإسلامي الطاهر، ومجتمع اللصوص العفن، وحصلت في أرض الواقع معاني (المفاصلة) التي جعلها سيد قطب شرطاً في إدارة المعركة السياسية بـبُعد عقائدي، وكان برهان المفاصلة في فكر سيد قطب رحمه الله لا يفهمه غير أهل العمق من الدعاة، لاحتياجه إلى فهم الموازين القرآنية والفقهية، واليوم يفهمه كل مسلم، وهذا انـتصار لفكر سيد بعد نصف قرنٍ من تدوينه، وارتقت المعركة من كونها سياسية فقط، إلى كونها عَقَدية، وذلك أوج النجاح وأعلاه وأزكاه، وصارت معركتنا: (ربانية)… !! ·المنفعة الخامسة عشر الكامنة في ثنايا غُمّة السـيـسي والفتـنة الصحراوية: قضية هي من ظواهر حركة الحياة لا يفطن لها إلا من ينظر بأناة، فيرى الحكمة في جريان الأقدار الربانية، وكيف يتحول الكيد إلى منافع، وإن الشعب المصري قلّت أرزاقه بصورة عامة، بسـبب المشاركة في الثورة ثم بسـبب الشَغَب الذي مورس ضد الرئيس مرسي خلال السنة الأولى من حكمه، وكانت مشاريعه التنموية واعدة، ولكن انعكاس خيراتها على الشعب مؤجّل، فأحاطت بالناس شِدّة، وحصل بأسٌ واحتياج للمال، وبلغ الصبر مداه، وفجأة انهالت بضعة مليارات من الدولارات على مصر من ملوك الصحراء وأميركا وإسرائيل وإيران، لا لتذهب إلى ميزانية الحكومة، بل هي رشاوى سبقت الانقلاب اشـتـريت بها ضمائر الإعلاميـين والعسكريـين والقضاة وبقايا المخابرات القديمة والبلطجية والفنانين وملاحدة العلمانيـين وأشكال ناشزة أخرى، منها عمائم ولحى كانت جاهزة للاسـتـئجار، وهذه الأموال ما كانت لتـنحبس سوى القليل منها، فإن شهوات المنـتـفعين منها وبَطَر زوجاتهم تجعلها تنصرف في مجاريها الطبـيعية باسـتـرسال عفوي، فالبعض منهم سـيـبـنـي بما حاز من مال حرام بـيـتاً، ومعنى ذلك: مورد رزق للنجار والحداد وعامل البناء والصّباغ وأمثالهم، وبعضهم تجبره زوجته على شراء مصوغات وحُلي، وتفصيل ملابس وبدلات بإسراف، فيـنـتـعش سوق الذهب ويسـتـرزق أهل محلات الخياطة والأحذية والتطريز، وبعضهم يشتري سيارة ويتفاخر بتوظيف سائق، فيأتي رزق لمن يتوظف كسائق، والبعض يولم ولائم السمك الفاخر لأصحابه، فيـتـوسع رزق الصيادين، وهكذا في متوالية كثـيرة التـنوع تـنـتعش فيها موارد أهل المهن، وهم أكثر الشعب، وبذلك كانت المؤامرة الخليجية الأميركية سبب خير لعموم أهل مصر ومؤمنيهم أكثر من فاسقيهم، فحصل فَرَج يؤهل الناس لمرحلة ثانية من ثورة 25 يناير عنوانها الاعتراض على انقلاب السـيـسي، ويكون ملوك الصحراء قد دفعهم القَدَر إلى تمويل الثورة الثانية وهم لا يشعرون، وذلك من أنباء تحليل حركة الحياة لمن يلقي السمع وهو شهيد، وأكثر الناس يسـتعجلون ويسـتغربون، لأنهم لا يعلمون، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهو خير الماكرين، وَلْيَمُت الصحراوي بغيظه، فإنّ غزوته فشلت، وتحولت الغنائم الوفيرة لنا، لما صَبَرنا ونقّينا النوايا، وبما اعتمد الغازي على أغبياء وسفهاء مرتزقة، واعتمدنا على الله تعالى، ثم على الثقات الأُمناء، وسوف يتم الله نوره ولو كره الظالمون الفاسقون. |