الردة عن الحرية [ح:18] (عن الثقة بالله تعالى)/د. محمد أحمد الراشد |
الجمعة, 27 ديسمبر 2013 02:16 |
قال: قد بايعت في الأول .! ، قال: وفي الـثـاني .! هذه هي تقويمات الحَدَث الانقلابي في الرؤية التحليلية الدعوية التي تستحضر موازين فقه الدعوة وقواعد التخطيط للعمل السياسي في مرحلته المتقدمة، وأرى أن أليق ما يتحلى به الدعاة هذه الأيام: الثقة بالله تعالى، وأنه ناصر المؤمنين، ثم الثقة بأنفسهم، وبالصفّ الذي ارتضى أن يتحرك بأوامرهم، فإنّ الدعوة هي دعوة الله، وهو الذي يرعاها، وظنـُّنـا أن الله أرحم بعباده من أن يدعهم أُلعوبة بـيد السيسي والغُزاة من وراء الصحراء، فقد تـتابعت المحن وطال زمن العَنَت والإرهاق، وكأن الله تعالى سيأذن بفرجٍ قريب، والقضية الفلسطينية بخاصة هي في مضيق ومنعطف خطر، والجلاوزة يريدون غزو غَزة من سيناء ومساعدة اكتساحٍ إسرائيلي من الشمال والشرق والبحر، وهذا أخطر موسم مَرّ على الجهاد، ويمهدون الآن لقطع الأموال عنها، ليسـتـبد محمود عباس بالأمر ويسـتـسلم لليهود بشكل كامل، بـينما نحن نـنـتظر معركة فاصلة مع إسرائيل بعد سنوات، ولذلك لابد في الرؤية القَدَرية أن تعود مصر إلى الأيادي المتوضئة الأمينة الإسلامية وينهزم السيسي وسُباعي الطغيان، والقضية المصرية أصبحت هي قضية الأمة الإسلامية كلها، وانتصار الإسلاميين فيها هو مفتاح حصول متوالية الانتصارات في جميع الأقطار، ولنا يقين أنه في الآخر: لا يصح إلا الصحيح، وسيعز الله الإسلام، ويخسأ الطغيان والفسوق، وليست هي حروف تـشجيع، وإنما هي تحليلات واقعية في ضوء فقه الدعوة ومعادلات حركة الحياة. ·أما لماذا كانت الرِّدّة عن الحرية، وكان الوَجَل، وكثرت قوافل الشهداء؟ ·فالجواب: إن الشهادة منحة عظيمة من الله يهبها الله لمن يشاء من عباده إذا علم منهم الإيمان والإخلاص وارتضى لهم الجنة، وما هي بضريـبة أو خسارة، بل هي هدية الله للصالحين، والموت قريب من كل أحد منّا، بمرض أو دهس، فلئن يكون اسـتـشهاداً برصاصة خير من أن يكون على الفراش، وقصص من قضى نحبه في سبـيل الله: تـنـيـر الدرب للسالكين، وهنا في درب الحرية هي المقامات الكبرى، لا في رباطات الصوفية السلبـية الانعزالية. وكأن الله فيما أفهم يريد بحكمته توكيد تسليم دعاة الإسلام زمام قيادة الأمة، فلعل أحداً من أهل الحسد أو من ضعاف المسلمين كان سيقول: قد كانت فلتة واستلمها مرسي بفارق قليل، مع أن أمر الخصم ابتنى على تزوير النسبة، أو كان يمكن أن يتصدر مصلحي يحرف المسيرة، مثل السـيـسي نفسه الذي وثق المرسي بـيمينه فحنث، فأراد الله تعالى عودة الفاسقين إلى الحكم، ثم إلهام الإسلاميين أن يـثبتوا في الساحة، ويكرروا الثورة السلمية، فيكون مجيؤهم الثاني إلى السلطة جازماً مُبرماً حاسماً هو فوق الخلاف والوسوسة وتكون كل البشرية على صدقه شاهدة دون شك مريب. ·وتعود بي الذاكرة إلى قبل نصف قرن حين كنت طالباً في السنة الرابعة النهائية بكلية الحقوق بجامعة بغداد، وكان كبير قضاة العراق الأستاذ محمد شفيق العاني يُدرسنا أحكام الأوقاف، وهو ذاك الحين رئيس محكمة النقض والإبرام، التي تُسمى في العراق: محكمة التمييز، متابعة لاصطلاح استعملته الدولة العثمانية، فكان يقول لنا: في بعض الأحيان تـتصاعد حماسة ثريٍّ ويزداد إيماناً فيوقفُ وَقفاً، يرجو به الثواب والجنة، ولكن أولاده وزوجته ممن سـيرثونه يـتضايقون من فعلته، فما يزالون في محاولة تثبيطه وصرفه عن نواياه الخيرية ثم حمله على أن يقيم دعوى يطلب فيها نقض وقفيته، وذلك جائز في بعض المذاهب، ولكن عند الحنفية أن القاضي إذا نَظَر في دعوى النقض وقرر إمضاء الوقف وردّ الدعوى لعدم وجود ما يسوغ النقض من أسباب: فإنّ هذا الرفض يجعل الوقف لازماً مؤبداً ويمنع الواقف من معاودة طلب النقض في دعوى ثانية، فكان أُستاذنا محمد شفيق العاني يقول لنا: ستكونون قضاة ربما، فإذا جاءكم مسلمٌ خيريٌ يوقف وقفاً وقبلتم وقفيته فاطلبوا منه أن يرجع إلى المحكمة في اليوم الثاني أو بعد ساعة من انفضاض الجلسة، وعلّموه أن يسـتـنكف عن فعلته ويطلب نقض الوقفية، وعندئذ احكموا برد طلبه ورفضه، فيسقط حقه في المستقبل في إقامة دعوى نقض أخرى، ويصبح الوقف مَحسومَ الأمر بتاتاً ومؤبداً، وعندئذٍ فقط اكتبوا له صَك الوقفية وسندها، واذكروا فيه أنه ندم وطلب نقض ما وقف وأن المحكمة لم تجد ما يُسوّغ قبول طلبه، وأن الوقف أصبح لازماً مؤبداً ولا يستطيع أي قاضٍ آخر أن ينقض الوقفية، وبذلك تفوتون الفُرصة على أقارب الواقفين في أن يوسوسوا لهم بالبخل. ·فأنا أرى أن مسألة اختطاف الرئيس مرسي وحصول كل هذا السوء: شـبـيهة بقصة الحكم الثاني للقاضي بإمضاء الوقف بعد طلبِ نقْضٍ وجَعْلِ الوقف مؤبداً بمثل هذه الفذلكة، فهذه فذلكة ربانية عالية الحكمة، أراد الله بها بيعةً ثانية لمرسي أو أخ له بعد فوزٍ بنسبةٍ مئوية كاسحة تُلْقِمُ حَجَراً كلّ مُوسوسٍ وطاعِنٍ وحاسدٍ وزاعمٍ لفلتة. ·هذا فهمي، والله المستعان على ما يصفون، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ·وأعتذر لجمهور الدعاة الذين بلغني أنهم قالوا: أين رأي الراشد في القضية ؟ فإني مريض، وأعاني من ألم الظهر ما جعلني أستريح الساعات الطوال بعد كل صفحة كنت أدونها من هذا التقرير، حتى تم بحمد الله بعد معاناة. وأنا محتاج لدعاء إخواني المؤمنين وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. محمد أحمد الراشد في العشرين من رمضان المبارك 1434هـ |