ثلاث آيات من سورة آل عمران/أحمد أبورتيمة |
الأربعاء, 25 ديسمبر 2013 12:52 |
ثلاث آيات متتاليات في سورة آل عمران استرعت انتباهي يمكن أن نفهم في ضوئها قانوناً تاريخياً عاماً: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون* ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون* وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين* " كيف لبشر أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله بهذا الشكل الفج الصارخ!! إن صاحب الرسالة رجل متنكر لذاته قد سيطر على قلبه هم الرسالة وتبليغها للناس فهو غافل عن أي أمجاد شخصية ولا يسعى لمكانة بين الناس ولا يريد منها جزاءً ولا شكوراً.. لقد تفانى عن شخصه لأن الروح التي قذفت في قلبه اختلطت بدمه ولحمه فعاش حياته للمبدأ المجرد المتعالي عن الشخصنة والمكانة الدنيوية.. إن المعنى الحقيقي لتوحيد الله هو التجرد من كل حظوظ النفس والتركيز في وجهة واحدة والتفاني فيها والغفلة عما سواها.. وهذا المعنى ليس خاصاً بالأنبياء وحدهم بل يسري على كل أصحاب الرسالات الذين يأمرون الناس بالقسط.. أما الانحراف فإن مبدأه حين يكون الخلط بين الدعوة المجردة وبين الأشخاص الذين يحملونها فيظنون أن حملهم للدعوة المقدسة يمنح قداسةً لأشخاصهم ووسائلهم فتصير قداسة الدعوة ساريةً على أصحابها وأفكارهم واجتهاداتهم في إيصال هذه الدعوة فيصير القائد مقدساً ومن ينتقده ينظر إليه بأنه ينتقد الدين ذاته وتصير الجماعة التي أنشئت لحمل هذه الدعوة بدورها مقدسةً فأعداء الجماعة هم أعداء الدين بالضرورة والعمل في سبيل الجماعة هو معادل موضوعي للعمل في سبيل الله والاستجابة لأوامر الجماعة هي استجابة لله وللرسول.. خطورة هذا الخلط أن كثيرين يقعون فيه وهم لا يشعرون أن استبدال مركزية الجماعة بمركزية الدعوة المجردة مهما كانت الجماعة قريبةً من مبادئ الدعوة المجردة يفقدهم البوصلة ويحول الوسيلة التي أريد بها بلوغ الغاية إلى غاية في ذاتها، والجماعة مهما جاهدت واجتهدت فإنها لن تصل إلى حالة التطابق الكامل مع الدعوة المجردة فلن تكون معادلاً موضوعياً دقيقاً للدعوة الإلهية الخالصة، وتطاول العهد وطول الأمد يزيد الفتق بين الجماعة والدعوة المجردة ولا يرتقه لدخول عوامل الهوى والفتور وضعف الروح، لذلك فإن الضامن للوقاية من الانحراف هو إبقاء التركيز على الدعوة المجردة وإضعاف مركزية التنظيم والإبقاء عليه في حدود الوسيلة المرنة القابلة للمراجعة والتبديل والتطوير وعدم إضفاء قداسة عليه تدخله في حالة الصنمية، حالة: " كونوا عباداً للتنظيم من دون الله"... إن هذه التعبيرات صادمة ولا شك وسيسارع كثيرون للاعتراض؛ هل نحن كفار؟؟ لا أحد يقول للناس كونوا عباداً للتنظيم من دون الله؟؟ لكن الرجوع إلى أصول المعاني القرآنية كاف لتهدئة انفعالاتنا وللتحلي بالمنهج العلمي، فالقرآن حين وصف أهل الكتاب بأنهم " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" فإنهم لم يكونوا يركعون ويسجدون للأحبار والرهبان، كل ما في الأمر أنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فالطاعة العمياء دون تبصر هي شكل من أشكال عبادة غير الله لأن الطاعة المطلقة شأن يختص الله به وحده دون عباده، ثم إن المعاني القرآنية عموماً هي معان كمية لا حدية أي أنها تبدأ ببذرة تنمو وتزيد لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يستغفر الله أن يشرك به شيئاً لا يعلمه ، ولا أحد يتصور أن يكون الشكل الصارخ المباشر للشرك موجود في حياة النبي معاذ الله بل ولا في حياة من هو أدنى منه إيماناً إنما كان النبي يستعيذ من البذور الخفية التي إن لم يجاهدها صاحبها فإنها تزيد، وبهذا الفهم نتعامل مع المصطلحات القرآنية عموماً فليس بالضرورة أن يطلب الدعاة من الناس بشكل صارخ أن يتخذوهم أرباباً من دون الله فهذه لا يقولها حتى طغاة الأرض ومستكبروها، والقرآن لا يثير قضايا نظريةً لا يلمسها الناس في حياتهم بل يهتم بمعالجة الأمراض النفسية والاجتماعية والتاريخية المعايشة للبشر، وبذرة "كونوا عباداً لي من دون الله" موجودة في نفوسنا تتطلب مجاهدةً شاقةً فهي تبدأ أن يمنح صاحب الرسالة لنفسه خصائص إلهيةً فيجعل شخصه أو تنظيمه مطابقاً للدعوة الإلهية ويسعى لإعلاء اسمه الخاص أو إعلاء اسم تنظيمه وزيادة رصيد سمعته ومحوريته في حياة الناس ويستجلب طاعة الناس له وكل هذا سيؤدي بالضرورة إلى تراجع التركيز على الغاية المجردة لأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، منهج الأنبياء الذي تبينه الآيات هو الغفلة عن الذات الفردية والتنظيمية والاستغراق في الغاية العليا: " ولكن كونوا ربانيين" فالنبي في هذه الآيات ليس له أي حظوظ ولا يسعى لأي مكاسب خاصة به أو بقبيلته فهو مجرد وسيلة لتعريف الناس بربهم، وانتصار الحق والعدل هو انتصار شخصي له، وليس العكس أن يكون انتصار شخصه انتصاراً للحق والعدل فهذه هي الربوبية من دون الله.. في الآية الثانية: "ولا يأمركم أن تتخذوا النبيين والملائكة أرباباً ".. لماذا النبيين والملائكة تحديداً ؟؟ إن الناس لا تقدس الأفراد العاديين ولا تقدس القادة المجرمين فالخطر الخفي هو في تقديس الرجال الصالحين والقادة الأبطال فهؤلاء على حق وقاموا بأفعال يمجدها الناس ويذكرونها بخير لكن الخطورة هي في توقف حالة التجدد الروحي والفكري عند الأمم وتحول إعجابها بالبطولة والتضحية إلى حالة الصنمية واتخاذ الأبطال أرباباً، ففلسفة الحياة هي الحركة الدائبة والتجدد الدائم سعياً إلى الله، وفي أي مرحلة يبدع فيها الأبطال والصالحون ويصنعون الأمجاد بإنجازاتهم التاريخية فإن ابتلاء الله للناس حينها يكون بتجاوز هذه الحالل إلى ما بعدها ومواصلة التقدم لأنهم لم يصلوا بعد إلى الله الذي إليه المنتهى: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا"، أما العكوف على ما بلغوه من إنجازات والاكتفاء بإنجازات الأبطال والمصلحين والركون إليها والتغني بها بدل العمل وتقديسها فهذا يعني أن هؤلاء الأبطال أو المصلحين وأفعالهم وأفكارهم صارت هي المنتهى أي أننا اتخذناهم أرباباً من دون الله.. إن الملائكة والنبيين فتنة لأتباعهم لأنهم مرسلون من الله فيميل الناس إلى منحهم القداسة لكن القرآن يطالبنا بيقظة روحية وفكرية دائمة حتى نستطيع التفريق بين الوسيلة والمنتهى، فالملائكة والنبيون هم وسائل للتواصل مع الغاية وكونهم وسائل فهذا يعني ألا نقدسهم لذواتهم بل نحبهم بما تفضل الله به عليهم والفرق دقيق بين المحبة والتقديس، وما ينطبق على النبيين والملائكة الذين يمثلون حالة الطهر والنقاء الكامل ينطبق أيضاً من باب أولى على أي داعية أو مجدد أو مفكر أو قائد أو جماعة مهما عظم عطاؤهم فنحن نحبهم لكن علينا أن نتجاوزهم وألا نستغرق في العكوف على إنجازاتهم حتى ننسى استحقاقات العمل والمواصلة... إن طول الأمد بالقائد أو الجماعة يدفع شعوراً إلى التسلل إلى نفوسنا وهو المطابقة وإلغاء الفرق بين الوسيلة والغاية فننسى الأهداف الروحية الكبرى ونجعل من رعاية التنظيم وحمايته وتسمينه هدفاً قائماً لذاته، لكن مراد الله من التاريخ هو الحركة الدائمة وليس السكون والاستقرار على أوضاع معينة فكيف نضمن استمرار ديناميكية الحركة الحضارية ولا ندخل في حالة الصنمية والجمود الفكري، إن هناك مؤشراً دقيقاً على مدى اليقظة الروحية وهو التحرر من مركزية الأنا الفردية أو التنظيمية، فإذا كنا نقول إن المصلحة الشخصية أو التنظيمية ليست هي الهدف، فإن أمارة صدق قولنا ألا نجد حرجاً في التعاون مع أي صيغة أخرى خارج حدود التنظيم ما دامت تحقق ذات الأهداف، وألا نجد حرجاً في تجاوز الصيغة التنظيمية الحالية حين يتبين لنا أن هناك وسائل أكثر فاعليةً، وأن نتحرر من شعور الكبرياء والحسد تجاه الأفكار الجديدة التي تتجاوز أطرنا التنظيمية لكنها تخدم ذات الهدف، فإذا كان الهدف مثلاً تحرير الوطن فإن تصديق ذلك أن نتعاون مع أي جهد يخدم الوطن من أي مصدر كان، وإذا كان الهدف هو الوطن لا التنظيم فإن أبناء التنظيم لن يترددوا لحظةً واحدةً في تجاوز قالبهم التنظيمي حين تتبين لهم صيغ أكثر كفاءةً في تحقيق الأهداف، وهذا المؤشر نفهمه من الآية الثالثة: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه"، فالنبي لا يسعى لبناء مجد شخصي ولا يهمه علو اسمه، كل ما يهمه روح الدعوة لذلك فإنه لن يشعر بحرج إذا تجاوز التاريخ شريعته وجاءت رسالة جديدة مصدقة لما معه، فسيسارع إلى الإيمان بها ونصرتها، وهذا ما سيفعله أي صاحب رسالة صادق فهو لن يصاب بمرض بني إسرائيل الذين كذبوا رسالة محمد حسداً من عند أنفسهم لأنهم كانوا ينتظرون أن يأتي النبي منهم، إنما سيكون صاحب الرسالة الصادق مهتماً بروح الرسالة وحسب، ولن يضخم من مركزية تنظيم أو جماعة بل سيكون على استعداد دائم للتجديد والمرونة وتجاوز الصيغ الحالية إلى صيغ أكثر فاعليةً وحيويةً إن دينامية الأفكار وقدرتنا على التجدد الدائم لإيجاد صيغ جديدة أكثر فاعليةً وأكثر استشعاراً لتطورات الواقع هو مؤشر تحررنا من مركزية الأنا ومن تقديس الأشخاص والتنظيمات ودخولنا مرحلة الروح حيث الإيمان المتجدد لا الراكد.. والله أعلم. |