حياة الألفاظ/زين العابدين ولد محمد الطيب
الاثنين, 27 يناير 2014 11:39

altaltرافقت اللغة الإنسان منذ وجوده الأول فكانت أداته الوحيدة للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره ، وتلبست بحياته وحضارته ، وظلت تنقله وتنتقل معه حيثما حل؛ ترحل بترحاله بين الضعف والقوة وتكمل حياتها بكمال حياته بل تأهله أحيانا كثيرة للحياة بعد ما يشرف على الهلاك ، حتى لكأنما أصبحت حياته هي حياتها ومماته هي مماتها .

 فهذه العرب كانت في أسفل ذيل الأمم ولم يكن لديها من المقومات الحضارية إلا اللغة ، ولا من الصناعات إلا القول ، غير أنها ظلت تنمى اللغة وتبث في أقطارها الحياة حتى صارت دلالات الألفاظ من أقدس مقدساتها ، فكان الوفاء والصدق والعدل نتيجة طبيعية لاحتفاظ اللغة بحياتها ، والألفاظ بدلالاتها ، واستحق العرب أن يكونوا الأمة التي تعهد إليها آخر مهمة إرسالية لتكميل مكارم الأخلاق في حياة للإنسان ، واستحقت لغة العرب أن تكون آخر لغة ينزل بها الوحي .

انظر إليهم وهم يعادون النبي صلى الله عليه وسلم أشد العداء ، ويحاربونه أشد المحاربة ، ويسعون للنيل منه بكل الوسائل، ومع ذلك يمنعهم احترام دلالات الألفاظ من هجائه باسمه الذي يدل على أنه محمود غير مذموم فلا يمكن جمع الحمد والذم في سياق واحد ، فيلجئون إلي تغير اسمه وينهالون بالشتم والسب على "مذمم"، وهو صلى الله عليه وسلم ليس مذمما بل محمد .

فلم تمنعهم أوصافه الحميدة ، وشمائله الرفيعة التي كانوا يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، ولا ألقابه التي كانوا هم من لقبوه بها، وهم من أطلقوها عليه : الصادق الأمين ، بل منعتهم دلالة لفظ "محمد" صلى الله عليه وسلم.

 صرفهم القدر عن ذمه وهم يعلمون أنهم يذمون مذمما وليس محمدا ، لكن قدسية الألفاظ أكبر عندهم من كسب رهان القول، رغم مكانة القول في نفوسهم .

فظلت اللغة حية وآلت حراستها إلى المسلمين، ورغم توسع اللغة وعظم ما أصبحت تحمل من المعاني التي تضيق بها الألفاظ ذرعا ، إلا أن قدسيتها ازدادت ولم تنقص ، حتى بعد توسع الفتوح ودخول الأعاجم في دين الله أفواجا.

فهذا أحد أمراء بني العباس يلزم الناس بالبيعة عن طريق الحلف بالطلاق لأنه يعلم أن لهذا اللفظ مدلولا لغويا يلازمه ملازمة الظل لصاحبه ، وأن الشريعة زادته قوة ومضاء حتى صار أجدى من السيف: إذ أن السيف ليس من شأنه أن يراقب الضمير في أخص خصوصياته، وليس بإمكانه أن يقطع تدبير الكائد في خلواته، فلم يجد لقطع دابر الفتنة وإجبار الكافة على إقرار أمره خيرا من أن ينتدب لهذه المهمة لفظا: اسمه الطلاق.

وبلغ الخبر مالكا رضي الله عنه فهب لنجدة كلمة أخرى أكبر حجما ، وأشمل دلالة هي : الحرية.

فيوشك أن يضيع الحكام هذه الكلمة "الحريةٌ" إذا سمح لهم بالاستمرار في استعمال هذا السلاح الفتاك ، فلم يجد درعا أٌقوى على درء هذا الخطر الداهم ، ودفع هذه البلية العظمى ، من نزع تلك القداسة التي بها تفعل " كلمة طلاق" كل هذا الفعل ، ولأن الدلالة اللغوية لا يمكن الاقتراب منها بحال من الأحوال ، وكذلك الدلالة الشرعية ، اختار السياق الزائف الذي أدرجت فيه هذه اللفظة "الطلاق" فجعله هدفه ، فصاح بالناس : ألا لا طلاق في إغلاق .

ولم يكن شيئ أجلب لسخط الحاكم من كشف حيلته هذه ، وإبطال مفعول سلاحه الذي لا يمكن أن يجد له بديلا ، ففعل بمالك ما فعل ، ولم يكن من مالك إلا التمسك بقوله : ألا لا طلاق في إغلاق ، ورأى الحاكم العباسي أن التطواف بمالك بين الناس على حمار يمثل فرصة نادرة للإبقاء على الألفاظ حية كما استلمها من الجيل الذي قبله ، فلا يمكن أن تموت الألفاظ في زمن النبلاء النبهاء .

 تحيى الألفاظ عندما تجد دلالاتها طريقها إلى النفوس فتلامس شغافها وتحكم سلوكها ، ومن ثم يستأذنها الواقع في التخلق ويستوهبها ما يصلحه من التعاريف .

فكم من كلمة في دنيا الناس اليوم تستصرخ ؟           

 

               يتواصل

حياة الألفاظ/زين العابدين ولد محمد الطيب

السراج TV