الحركات الإسلامية والدور الديبلوماسي المفقود/عزيز المردي
الخميس, 30 يناير 2014 02:25

altaltفي هذه المقاربة سأتناول الموضوع من خلال النقاط التالية :

1-      إشارات لبعض خصائص الإسلام .

2-      نموذجان من الديبلوماسية الناجحة للصحابة

3-      التسيب في المواقف والقرارات وغياب النفس الديبلوماسي في واقعنا المعاصر

1 - إشارات لبعض خصائص الإسلام:

     رغم عالمية الدين الإسلامي " وما أرسلناك إلا كافة للناس " الآية، ورغم ما تختص به تعاليمه من رحمانية ورحيمية للناس أجمعين " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الآية، " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " الحديث، ورغم ما يقدمه من تعاقد اجتماعي يحمي ويؤمن حقوق المخالفين حتى وإن كان اختلافهم عقديا وإيديولوجيا: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه" الآية، فالشريعة الإسلامية أعلنت منذ نزولها على أنها الميثاق الدولي والإنساني الحامي لكل الحقوق والحاضن لكل الفئات والأجناس.

وهذه الآية رغم قلة ألفاظها فإنها تمنح فضلا من الله وإحسانا حقوقا عانت البشرية في سبيلها المشاق ولا زالت:

  1واجب حماية وتأمين حياة المضطهد المخالف عقديا

 2حقه في المعرفة والحصول على المعلومة في حقيقتها وصفائها ( يسمع كلام الله وليس غيره)

  3حق التكفل بإيصال الشخص المهدّد في أمنه وحياته إلى موطن اللجوء السياسي الآمن (ثم أبلغه مأمنه.

   وهذا توليف يجمع بين حق الحياة وتأمينه وحق الحصول على المعلومة المرتبطة بمراد الله من خلقه، فدين الله يعمم تبيانا للناس وشرحا وتوضيحا، فلا يحتكر من قبل فئة تمارسه به الديماغوجية الإقصائية الاستئصالية، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل محاربا نطق بالشهادة متعللا أنه قالها خوفا من السّيف رادّا حجته بقوله: " هلا شققت على قلبه "، أو تحول دين الله إلى صكوك تجمع بها الثروات من السذج والبسطاء ولذلك جاء التحذير: " ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا " الآية، أي الجبت والطاغوت.

   ثم لا يكتفي الإسلام بذلك، فقد نمنح حق اللجوء السياسي لشخص لكن تبقى تحركاته محكومة بشروط، أو يظل تحت أعين استخبارات المضيف ... لكن يحث ديننا ويفرض إيصاله إلى مأمنه مما يخوله الممارسة الطبيعية للحياة ولا يجوز حصرها في بعدها البيولوجي فقط، فالإسلام يكره تخفيض قيمة الإنسان وحصر طبيعته الإنسانية في الحدود الغريزية (أكل وشرب ونوم).

وفي الخطاب الإلهي الموجه للقوى الدولية وتجمعاتها الإنسانية وأجناسها المختلفة: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" الآية، ما يدل على أن القصد من التنوع ليس التنافر والعراك إنما قصده التواصل واستكشاف مزايا الآخر، والتعارف تواصل وتفاعل موصل إلى التساكن والتعاون.

   ورغم كل ذلك وغيره مما يعود إلى خصائص الشريعة الإسلامية تبقى غالبية الحركات والتوجهات الإسلامية والأقطاب الدينية الفردية ذات خطاب سياسي متشنج يحقق أهداف غير استراتيجية أو مساعدة لنجاح المشاريع المناوئة ولا يؤسس لديبلوماسية هادفة ووازنة في العلاقات الإقليمية والدولية، وقبل التفصيل في ذلك نقف على ديبلوماسية خريجي مدرسة التربية والتأهيل للمصطفى عليه الصلاة والسلام:

  2-  نموذجان من الديبلوماسية الناجحة للصحابي

 

إن الرعيل الأول من "الجيل القرآني الفريد" في صحرائه وفيافيه مارس الديبلوماسية من بابها الأوسع، وحقَّقَ نجاحات في المحيط الإقليمي والدَّولي ببراعة وامتياز، فرغم فتوة وحداثة تدينهم يرقبون صراع القوى الدَّولية آنذاك وينحازون في موقفهم إلى المنهزم (الرُّوم) لوجود قيم مشتركة مركزها " الإيمان بكتاب من عند الله " ممَّا يعزِّز الجبهة الدينية المتلقية عن الله من قبل رسله، وتأتي البشارة لهم من السماء " ألم ،غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين"، الآية.

     وبعد اشتداد اضطهاد قريش للمسلمين، يطلع الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام إلى المحيط الإقليمي فيرسل مجموعة من المضطهدين في حرية اعتقادهم، وفي حق الاجتماع ونشر الأفكار والآراء، إلى دولة الجوار الحبشة في هجرتين. وسبب اختيار هذه الدولة أن بها ملكا عادلا. وبذلك تكون القيم الدينية المشتركة للمسيحية دين دولة الحبشة وتعاليم الدين الجديد وما تمثل من ضمانة حمائية لحق الاختلاف وحق حرية المعتقد، وحق التجمع وإبداء الرأي، التي يقوِّيها ويضمنها العدل حكما وتدبيرا، المفقودة في مكة، رغم الشعار الذي رفعه الرسول عليه الصلاة والسلام تشبثا بتلك الحقوق " خلوا بيني وبين الناس "، السبب الأساس في اختيار الحبشة موطن اللجوء السياسي.

   وبعثت قريش موفدين لاسترجاع المجموعة " المارقة " في رأيهم من الحبشة، لكن يأبى الملك العادل إلا أن يستمع للمجموعة اللاجئة (83 رجلا و19 امرأة) لتبيان حقيقة ما تدَّعيه قريش في حقها رافضا " هدايا قريش " رشوة سياسيَّة شملت كل الأساقفة.

وتقدم الناطق الرسمي باسم اللاجئين جعفر بن أبي طالب فقال: أيها الملك، كنَّا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف ... حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف صدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله ـ عز وجل ـ لنوحده ونعبده (...) وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرَّحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء (... ) فصدَّقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به (...) فعدا علينا قومنا، فعذَّبونا، وفتنونا عن ديننا (...) فلما قهرونا، وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك " .

   قمة في الإبداع وفنية في التصوير وبراعة في التبليغ، حيث ركَّز على قيم الغاب السائدة في مجتمعه ثم نقيضها في مشروعه الجديد وهي قيم إنسانية جامعة ومشتركة مع أهل الكتاب من المسيحيين الخلص في غالبها: إساءة الجوار، وأكل القوي للضعيف في مقابل حسن الجوار، (عدم التدخل في الشأن الداخلي) والكف عن محارم النَّاس في أعراضهم وممتلكاتهم والدماء (استبعاد العنف والإرهاب والترامي على الحقوق). ثم رافعه في قضية مجموعته مع قومه حيث الظلم والقهر والإكراه قهرا وظلما، أي انعدام حرية المعتقد. ورغم ذلك لم يقوموا بأي عمل يغري الحبشة للتدخل في الشأن الداخلي لقومهم، علما أن جيشا حبشيا أبيد كاملا على مشارف مكة في زمن أبرهة، ثمَّ التمس بلغة مليئة بالأدب والحكمة وديبلوماسية: اخترناك... ورغبنا... ورجونا.

     وقد أحس النجاشي بتلك القيم الجامعة الصادرة من معين الوحي أيما إحساس، عندما سمع ما قرأه عليه جعفر بن أبي طالب من سورة مريم فبكى "حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم... ثم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ".

     فقالت أم سلمة راوية وموثقة الحدث عن الموفدين من قريش" فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار".

   ولما ظهرت المعارضة للنجاشي لم يتحول اللاجئون المسلمون إلى مرتزقة أو محترفي التصفية لمخالفيه أو فرق موت (لا أنصار شريعة، ولا أنصار سنة ....)، وإنما كان الموقف سياسيا ينضح بالنضج ويعلي من قدر المجموعة وقيمها: " قالت أم سلمة : والله إنه على ذلك إذ نزل به من ينازعه في ملكه (تعني النجاشي )... والله ما علمنا حزنا قطُّ كان أشدَّ من حزن حزناه عند ذلك "، وأرادت المجموعة تتبع خبر المواجهة بين النجاشي وعدوه فنفخوا للزبير بن العوَّام وهو أصغرهم سنا قربة فقطع بها نهر النيل، قالت أم سلمة : ودعونا الله عز وجل للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة ( استقر له ) فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ".

فلم تسجل أية محاولة للمشاركة في الأحداث الداخلية للدولة، وهم على خبرة ودربة قتالية، ولا أنشؤوا تنظيمات تحت أي يافطة من اليافطات، وإنما تعاطف ودعاء، ولا يؤخذ الناس على مشاعرهم وعواطفهم، وإنما يؤخذون على ما كسبت أيديهم (القصة في كتب السيرة منها سيرة ابن هشام، أو " الرحيق المختوم " للمباركفوري، أو" سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم " لمحمود المصري).

وما الموقف الذي صرح به أول سفير في الإسلام لسيِّدَا قوم بني عبد الأشهل بالمدينة قبل الهجرة، عندما أقبلا عليه واحدا تلو الآخر متشتمين وغاضبين، إلا نموذج من الحنكة السياسية والديبلوماسية البارعة قال: لأسيد بن حضيرالذي أمسك الحربة غاضبا مطالبا إياه وصاحبه أسعد بن زرارة بالرحيل عن قومه: " أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره "، وقال لسعد بن معاذ بعده: " أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره "، وكان الرد من الرجلين متطابقا على هذا التصريح السياسي والديبلوماسي الهادئ والرَّزين " أنصفت " وأسلم الرجلان بعد استماع وتمعن، وما تخلف من قومهما أحد.

هنا تبرز الممارسة الموزونة المتَّزنة لحق التعبير ونشر الأفكار والآراء، دون تحريض أو استفزاز أو تجريح، كان السفير مصعب بن عمير يدعو إلى الدِّين الجديد في موطن غير موطنه، بفنِّية عالية، فكسب السادة والقادة، والعامَّة والاتِّباع، وأثمرت جهوده أن استقبلت المدينة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وشكَّلت منشأ الدولة الإسلامية الفتية .

وفي ما اطلعت عليه من سيرة الصحابة لم أجد مواقفهم الدَّعوية والسياسيَّة وحتى العسكرية ممزوجة قط بمرارة معاناتهم وسياط جلاديهم، كانت أجسامهم وأنفسهم قربات إلى الله وقرابين من أجل المبادئ والاعتقاد، ولا انتهجوا أسلوب التباكي والمظلومية لغة للاستقطاب والتبشير بالدين.

   3 - التسيب في المواقف والقرارات وغياب النفس الديبلوماسي في واقعنا المعاصر

لكن في واقعنا المعاصر مشاهد كئيبة وصور قاتمة وديبلوماسية موؤودة لتمثل الدين وتمثيله حيث يتم التركيز على الفروع وتنسى الأصول.

تنتشر تنظيمات وتوجهات تنهل من العصبية المتمركزة حول الذات، وتصدر الفتاوى وتتنوع وتختلف دراجاتها وهي تحت الطلب، وعلى الهواء مباشرة: فتاوى التكفير، فتاوى ثنائية التركيب تحرم و تبيح في آن واحد (الخروج على الحاكم غير جائز في ديارهم وجائز بل واجب عند غيرهم)، فتاوى مشايخ نارية حول سوريا مرتخية ومائعة حول مصر، وفي المغرب تتدحرج المواقف والفتوى من التكفير إلى السخافة فتتناول الجزر وعلاقته بالجنس والحلزون بين الحل والحرمة، وهاهي منابر وقنوات تعلن المواقف بمزاجية حادَّة وتمارس الاستقطاب المحموم مما زاد الناس حيرة والمومنين انكفاء ونكوصا.

وفي بلاد المهجر حكايات وحكايات بين من يعلنها أرض حرب، وهو فيها في حرية وعافية وأمن يفتقده في موطنه الأصلي، ليجيز زرع الخراب ونهب الأموال و" الاستمتاع بالشقروات "، شهوة ورغبة وانتقاما وجحودا وليس دينا ومنهاجا، وبين من انسلخ عن دينه واتبع هواه فهو " كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ".

   وإن من أسباب هذا الإخفاق ما يرجع إلى عوامل مرتبطة بتعدد الأقطاب الفكرية والمراجع الدينية التي أنتجت " توجهات " مختلفة ومتباينة في كثير من الإجراءات التطبيقية العملية، ثم نزوع حركات من الإسلام السياسي إلى ممارسة السياسة بثورية ذات نكهة يسارية راديكالية، وليس من الشريعة ومقاصدها.

   وزاد من قتامة المشهد النظر في تدبير الدولة تقييما أو تدبيرا من زاوية النصوص لا المصالح ثم من زاوية التوجه الفكري أو الانتماء التنظيمي بعيدا عن المقاصد الشرعية المستوعبة للحقوق والمصالح الإنسانية والقراءة العلمية الواقعية، وبالتالي يقدم الإسلام على أساس الفهم الانطباعي الفئوي أو المشيخي أكثر من تقديم تعاليم الإسلام من مصادرها مجردة من استنساخ التطبيقات التاريخية، أي عدم القدرة على ملائمة مجموعة من المقاصد الشرعية مع واقع الحال، حتى يفهم ويلمس الناس في هذا العصر أن تعاليم الدين صالحة حقا لمعاشهم ومعادهم.

     لكن الأمل معقود على التنظيمات المعتدلة التي اتخذت من الوسطية والاعتدال خيارا، ومن التعاون مع الغير على الخير منهجا، ويبقى واجب تصحيح وترميم الجبهة الدينية ومحاصرة المتنطعين مسؤوليتها الأولى، ثم إن بعض من حملته رياح التغيير إلى موقع التدبير الحكومي، استفاد من الضربة التي تلقاها في مواقفه الدولية أو الإقليمية، وأصبح يدرك المفارقة بين إصدار المواقف من تحت عباءة التنظيم وبين إصدارها من موقع تمثيلية الأمة وعباءة الدولة.

   كما أن محاربة المتنطعين والمتشددين من المتدينين والاستئصاليين من اليساريين والليبيراليين والعلمانيين مسؤولية الجميع من أجل الأمن والعيش المشترك والتداول السلمي على السلطة، والتوزيع للثروة على أساس الجهد والمردودية والمسؤوليات والاستحقاق .

 

 

 

التوحيد والإصلاح

الحركات الإسلامية والدور الديبلوماسي المفقود/عزيز المردي

السراج TV