مفهوم الحرابة في الإسلام....مقاربة تفسيرية
الأحد, 25 مايو 2014 13:35

بقلم /مختار ولد نافع بقلم /مختار ولد نافع بقلم /مختار ولد نافع

مما يلفت النظر في عرض القرآن الكريم للأحكام الشرعية أن القرآن تكفل بعرض الفقه الجنائي فجاءت الحدود كلها –ما عدا حد الخمر-  منصوصة في القرآن ولم توكل إلى السنة فضلا عن الاجتهاد، وقد نتج عن ذلك اتفاق العلماء على المسائل الأساسية في الحدود مثل البينة المطلوبة في الزنا (أربعة شهداء) والعقوبة المطبقة في السرقة (القطع)

غير أن اللافت هو أن حد الحرابة الذي ورد في القرآن الكريم النص عليه وقع فيه خلاف كبير بين العلماء في كثير من محدداته الأساسية إلى درجة أن من السلف من اعتبر أنه ليس حدا على المسلمين وإنما هو عقوبة للمشركين

وهذه الخصوصية لحد الحرابة تفرض إشكالية يتعين لحلها اعتماد مقاربة تدرس خلاف المفسرين والعلماء حول عدد من  المسائل المرتبطة بمفهوم الحرابة والأسباب التي أدت لهذا الخلاف ..لعل ذلك يعين على توضيح هذه الخصوصية.

وسنتبع في هذا البحث المنهجية التالية:

المطلب الأول: جريمة الحرابة

المطلب الثاني: عقوبة الحرابة

المطلب الثالث: الحرابة بين الحق العام والحق الخاص

ما تسقط به عقوبة الحرابة

خاتمة:

المطلب الأول: ماهية جريمة الحرابة

من المتفق عليه بين العلماء وجود جريمة باسم الحرابة رتب عليها الشرع هذه العقوبات الواردة في الآية ولكن حقيقة هذه الجريمة في أصلها وفي تجلياتها محل اختلاف بين العلماء، ولتجلية ماهية هذه الجريمة لابد من استعراض هذه الخلافات و أسبابها التي تعود بالأساس إلى اختلاف طرق التفسير وإعمال مفردات المنهج التفسيري من أسباب نزول و لغة وسياق وتطبيق نبوي.

أولا: الحرابة بين قطع الطريق وحرب المشركين

اختلف العلماء في تعريف الحرابة فالذي عليه الجمهور هو أن الحرابة قيام بعض المسلمين بقطع السبيل وإخافة الناس كما روي عن مالك والشافعي وأبي ثور أن الآية "نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد"، وقال عكرمة والحسن إن الآية نزلت في المشركين "فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه"[1]

و منشأ هذا الخلاف يعود لأمور منها سبب النزول فقد اختلف العلماء في سبب نزولها ، فمنهم من قال إنها نزلت في العرنيين الذين استوخموا المدينة فأرسل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راعيا فساقوا إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلوا راعيه ، ومنهم من يقول إنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدا لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد نقله الطبري عن ابن عباس[2]ومنهم من قال إنها نزلت في قوم من المشركين ونقله الطبري أيضا عن الحسن وعكرمة.

والذي اختاره الطبري إنها نزلت بعد حادثة العرنيين لتظاهر الأحاديث بذلك، ولكنها مع ذلك مرتبطة بسياقها الذي يتحدث عن بني إسرائيل، لأن ما قبلها وما بعدها من قصصهم. 

ومن أسباب هذا الخلافِ: الاختلافُ في معنى كلمتي "يحاربون" و"فسادا" الواردين في قوله تعالى "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، فالمحاربة المستفادة من قوله تعالى "يحاربون الله" والفساد الوارد في الآية يمكن الاستدلال بهما على كلا القولين؛ نظرا لاتساع دلالتهما اللغوية قال ابن كثير " المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر"[3]

 والذي يترجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء والمفسرين أن الآية لا تقتصر على المشركين بدليل ما ورد فيها من قول الله عز وجل: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" فتقييد التوبة بأنها قبل المقدرة غير وارد في المشركين لاتفاق العلماء على أنهم إن أسلموا بعد التمكن منهم لا يؤاخذون بما جرى منهم لقوله تعالى " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ" (الأنفال،38)

ثانيا: هل قطع الطريق خاص بالبادية؟

فقد اختلف العلماء في جرائم السطو في الحضر هل هي داخلة في معنى الحرابة، أم أنها مقتصرة على قطع الطرق في البادية والصحاري وما في معناهما من الأماكن التي لا توجد فيها قوة قادرة على تخليص المعتدَى عليهم، فالقول الأول قول الشافعي وأبي ثور ومالك والقول الثاني قول أبي حنيفة سفيان الثوري وإسحاق، ورواية عن مالك[4]

واحتج القائلون بأن قطع الطريق خاص بالبادية بأن المحاربة إنما تتحقق في البادية أشد لعدم المغيث، كما احتج الجصاص[5]لهذا القول بحديث "ليس على المختلس قطع"[6] وذلك أن المختلس هو الذي يسرق الأمر الممتنع أي المحروز فكان المحارب في الحضر حيث تمكن الإغاثة مثله في عدم الحد.

أما من قالوا بعدم التفريق بين البادية والحضر فنظروا لعموم اللفظ ودخول كلا الحالتين تحت اسم المحاربة ,كما قال ابن المنذر "والخطاب على العموم , وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة" [7]

و مع قوة الخلاف في المسألة فيمكن أن نرجح اختيار ابن العربي في المسألة حين قال: "والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر ، وإن كان بعضها أفحش من بعض ، ولكن اسم الحرابة يتناولها ، ومعنى الحرابة موجود فيها"[8]

المطلب الثاني: عقوبة الحرابة

بعد أن تحدد أمامنا جريمة الحرابة يبقى لنا تحديد العقوبة التي تطبق على المحارب ، ومن أجل ذلك ينبغي علينا أن نستعرض المسائل التالية والخلاف فيها:

أولا: مسألة التخيير والمماثلة

ورد في الآية في تحديد العقوبة التي تطبق على المحارب قوله تعالى ..."أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" وقد اختلف العلماء في كيفية تطبيق هذه العقوبات فقالت طائفة إنها على وجه المماثلة يفعل بالمحارب مثل ما فعل ((فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف , وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب , فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل , وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي[9]))

وقال بعض العلماء إنها على وجه التخيير (ومعنى التخيير ...أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام ، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه ; لأن القطع لا يرفع ضرره . وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف . وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك فيه وهو الضرب والنفي[10]".

على أن من بين القائلين بالتخيير من يقول به مطلقا ومن يقصره على ما سوى القتل أي أن المحارب إذا كان ارتكب قتلا فإنه يقتل وليس للإمام أن يوقع به ما دون القتل من العقوبات و هذا هو قول مالك[11]

وسبب هذا الخلاف لغوي وهو هل "أو" الواردة في الآية للتخيير أو للتقسيم، كما أن له سببا آخر سنتطرق له لاحقا.

ثانيا: النفي بين الإبعاد والسجن:

من المسائل التي اختلف فيها العلماء تعريف النفي الذي هو أحد العقوبات الواردة في الآية فقد أبقاه بعض العلماء على المعنى المتبادر منه أي الإبعاد، وأوله آخرون بالسجن وقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام[12]

وسبب الخلاف هو النظر في المعنى المراد من العقوبة؛ ذلك أن الذين أولوه بالسجن قالوا إن النفي لا يزيل ضرر قاطع الطريق بل يحوله من مكان إلى مكان واحتجوا بما روي عن مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال : "أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم"[13]

أما القائلون بالإبعاد فقد تمسكوا بالمعنى الظاهر لعدم ما يوجب الحمل على هذا التفسير البعيد محتجين بأن النفي يزيل الضرر لأن الشخص في بلاد غير بلاده يكون أقل جرأة وأضعف ناصرا قال ابن عاشور في تقرير هذا المعنى " ولكن قد بين العلماء أن النفي يحصل به دفع الضر لأن العرب كانوا إذا أخرج أحد من وطنه ذل وخضدت شوكته ، قال امرؤ القيس:

به الذئب يعوي كالخليع المعيل

وذلك حال غير مختص بالعرب فإن للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده"[14]

على أن ابن عاشور أورد قولا آخر يفتح المجال لتضييق وجهة الخلاف بين العلماء فقد قال بعد الخلاف السابق "على أن من العلماء من قال : ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور . قال أبو الزناد كان النفي قديما إلى ( دهلك ) وإلى ( باضع ) وهما جزيرتان في بحر اليمن"

فمن هذا الرأي يمكننا أن نقول إن الحصر -بحسب عبارة من نقل عنهم ابن عاشور- أو الإقامة الجبرية –بحسب المصطلح المعاصر-  في مكان غير مكان المحارب الأصلي يحقق ما يقول به الطرفان؛ فهو يحقق الإبعاد الذي هو ظاهر الآية وقول طائفة من العلماء، ويحقق المعنى المطلوب من العقوبة وهو كف ضرره عن كل الناس، وهو المعنى الذي حمل الطائفة الثانية على القول بالسجن.

المطلب الثالث: جريمة الحرابة بين الحق العام والحق الخاص

إن مجمل أقوال العلماء في هذه المسألة هو أن هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من الناس، ولذلك لا تسقط إذا عفا عنها الأفراد.

غير أن تتبع المسائل الجزئية التي اختلف فيها الفقهاء والمفسرون في الآية يقود إلى أن هذه الجريمة ذات طبيعة مركبة فهي في أصلها أي حمل السلاح وقطع الطريق جريمة حق عام، وهي في حالاتها المحددة جريمة خاصة ضد أشخاص معينين، ولذلك نرى أن خلاف العلماء في عدد من الأحكام الجزئية سببه تغليب بعضهم في جزئية معينة لجانب الحق العام وتغليب مخالفه فيها لجانب الحق الخاص، وأن اتفاقهم على اعتبار أحد الجانبين يعود إلى قوة هذا الجانب في المسألة المعينة،ومن مسائل الخلاف التي تبني على هذا المعنى:

أولا: ما تسقطه التوبة

وقد أورد فيه ابن رشد أربعة أقوال: أحدها : أنها تسقط حد الحرابة فقط ، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين ، وهو قول مالك.

 والقول الثاني : إن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله ، ويتبع بحقوق الناس من الأموال والدماء

والثالث : أن التوبة ترفع جميع حقوق الله ، ويؤخذ بالدماء وفي الأموال بما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم.

والقول الرابع : إن التوبة تسقط جميع حقوق الله وحقوق الآدميين من مال ودم إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده.[15]

وواضح هنا إن مستند القائلين بعدم سقوط حق الأفراد هو أن الحق الخاص لا يسقطه إلا صاحبه، أما من قالوا بسقوطها فمستندهم أن المراد من فتح باب التوبة وإسقاط المتابعة في حق المحاربين هو تحقيق السلم ورفع ضرر المحاربين دون قتال بين المسلمين، وذلك لن يتحقق إذا علموا أنهم سيتابعون بحقوق الأفراد التي قد تكون عقوبتها القتل أو دفع أموال لم تعد في أيديهم ولا يمتلكون ما يدفعونه بدلا عنها.

وانطلاقا من هذا فلا يستبعد أن يقال إن القول الأرجح الذي يحقق المصلحتين الخاصة والعامة هو القول الرابع الذي يقول بإسقاط الحقوق الخاصة من الأموال والدماء إلا ما كان قائما...ثم لا بأس إن قيد بإضافة شرط تحمل الدولة لتعويض أصحاب الحق الخاصة سواء بدفع الدية في حالة الدم، أو المال في حالة المال.

ثانيا: التخيير والمماثلة

ومن مسائل الخلاف التي سببها اختلاف النظر إلى وجهتي الحق العام والحق الخاص الخلاف هل العقوبات الواردة في الآية على وجه التخيير أو المماثلة فالقول بالمماثلة أقرب لاعتبار الحق الخاص، أما القول بالتخيير فهو إلى اعتبار الحق العام أميل.، وقد تقدم عرض لهذا الخلاف بالتفصيل.

ثالثا: قتل الحرابة بين الحد والقصاص

ومن هذه المسائل كذلك الخلاف في اعتبار القتل في الحرابة حدا أو قصاصا وما يترتب على ذلك من خلاف في لزوم المماثلة بين القاتل والمقتول، ومنها أيضا الخلاف هل يقتل  من اشترك في الهجوم الذي تسبب في القتل يقتل ولو لم يشارك في القتل نفسه.[16]

المطلب الرابع: ما تسقط به جريمة الحرابة:

 اتفق العلماء على أن التوبة قبل المقدرة تسقط العقوبة عن المحارب، ولكنهم اختلفوا في الكيفية التي تكون بها هذه التوبة على أقوال منها: أن يسلم نفسه للإمام قبل القدرة عليه وعلى هذا القول لا تسقط عنه الأحكام إلا بتسليم نفسه ولو ظهرت توبته، ومنها أن يظهر التوبة قبل أن يقدر عليه وإن لم يأت الإمام، والقول الثالث إن توبته تتحقق بأي واحد من هذين الأمرين[17].

والخلاف راجع إلى تحقيق المعنى الكامن في التوبة قبل المقدرة وهو "أن يتحقق المحارب أنه مأخوذ أو يضيق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه"[18] كما يقول ابن عاشور، وعلى هذا الأساس لا يبعد القول إن تقدير المسألة متغير بحسب الزمان وتقدير السلطان.

خاتمة

يتضح لنا من خلال هذا العرض أن جريمة الحرابة لم توضع أحكامها في القرآن بصورة قطعية لحكمة لعل منها فسح المجال للاجتهاد في مواجهة هذه الجريمة التي يؤثر اختلاف الظروف في اختلاف طرق مواجهتها، وبان لنا –من الناحية العلمية- بعض الأساليب القرآنية التي تتيح للمجتهدين إمكانية الاستدلال بالنص القرآني على أكثر من مذهب.

[1]تفسير القرطبي ج 6/ص149 دار الكتب المصرية – القاهرة الطبعة : الثانية ، 1384هـ - 1964

[2]تفسير الطبري 8/ 360

[3]تفسير ابن كثير 3/94

[4]تفسير القرطبي م س 6/ 151

[5]الجصاص، أحكام القرآن 4/60 دار إحياء التراث العربى ـ بيروت

[6]الحديث بهذه الصيغة رواه النسائي عن جابر وصححه الألباني (صحيح وضعيف النسائي الحديث رقم 4973)

[7] القرطبي 6/ 151

[8]أحكام القرآن لابن العربي 3/ 159

[9]القرطبي، نفس المصدر

[10]ابن رشد، بداية المجتهد 2/455

[11]نفس المصدر

[12]تفسير ابن كثير،3/100

[13]القرطبي مس 6/153

[14]ابن عاشور مس 5/94

[15]بداية المجتهد مس 2/457

[16]لم يسمح مجال البحث بالتفصيل في إيراد هذا الخلاف فيرجع إليه في كتب أحكام القرآن.

[17]البداية والنهاية نفس المصدر.

[18]ابن عاشور م س 5/96

مفهوم الحرابة في الإسلام....مقاربة تفسيرية

السراج TV