الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عى نبيه الكريم. إن نشر التدين في ربوع المجتمع الإسلامي واجب شرعي، وهدف دعوي، وصمام أمان ومؤشر استقامة، فقد أوجب الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: ، وجعل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أخص صفات المومنين والمومنات فقال: "والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".
وألزم كل مسلم بمن حوله من الأهل و الأقربين فقال: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة .." الآية. وقال صلى الله عليه وسلم "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". فأول قيمة نذكرها أنه أداء لواجب شرعي، وتنفيذ لتكليف رباني، ومورد لزيادة الحسنات وتكفير السيئات، ورفع الدرجات لمن قام به أو ساعد عليه، أو بذل فيه أي جهد ابتغاء وجه ربه. ثم هو هدف دعوي كبير بتحقيقه يفتح الطريق لما وراءه من أهداف الإسلام، ومعنى أنه هدف دعوي أن الدعاة إلى الله يسعون من أول ما يسعون إليه أن يسود التدين المجتمعَ: رحمة بالناس ، وحرصا على الخير وقناعة بحاجتهم لعبادة الله وتقواه، فكثيرا ما يبدؤون بتصحيح الأخطاء العقدية وتحريك عاطفة الإيمان، وحوافزه الداخلية ثم تكون الدروس والمواعظ حول الصلاة بفرائضها ونوافلها وسننها ومندوباتها مرورا بكل العبادات خاصة أيام مواسم الصيام والحج، وبنفس القدر تكون الدعوة إلى الخلاق و القيم خاصة العفة و المودة والمحبة والأخوة، ولا يقفون عند ذلك، إنما نرى خطة الدعاة مهتمة بالقرآن وتعليمه ومحاضره، والفقه وأحكامه، والشرع وكل علومه، كما تركز التوجيهات الدعوية على الأذكار والأدعية والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. لهذا كله قلنا أن التدين الجماهيري هدف دعوي تنطلق منه دعوة الإسلام وتتأسس عليه. والتدين الجماهيري كذلك صمام أمان، ومؤشر استقامة، حيث يصبح المعروف معروفا ويصبح المنكر منكرا في حياة الناس وثقافتهم، وهو وضع لا يكون موجودا إلا إذا ساد الدين الحياة الفردية وكان له أثر بارز على الحياة الاجتماعية. عندها يوجد الحياء، وتنموا المروءة، وتختفي المجاهرة، ويشارك الضمير الجمعي في صيانة الأخلاق و القيم، ومحاربة المنكر والخرافات، ويستطيع الناس حماية الهوية، وتفعيل المشترك، وبدون هذا الشيوع للدين في حياة الناس يصعب امتثال قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه". بل يلجأ المصلحون ودعاة الإسلام إلى الاقتصار غالبا على الأنشطة الدعوية والتعليمية التي تزيد منسوب الدين في حياة الناس، ويضطرون للسكوت على الكثير من المنكرات الفردية والاجتماعية، لأنها في نظر المجتمع لا تعتبر منكرا إلا إذا ساد الإسلام ثقافة الناس وحياتهم الاجتماعية. ولا يقلل من قيمة هذا التدين الجماهيري أنه قد تمتلئ المساجد، وتنتشر المحاضر ويقل العري ويخف التبرج، دون أن نرى لذلك أثرا كبيرا على مستوى المعاملات والمواقف، وعلى مستوى الاهتمام بالمصالح العامة، وتحقق أهداف الرسالة السماوية، نعم أقول إن ذلك لا يقلل من قيمته لعدة أمور منها: أن الضعف الإسلامي في مجال الشؤون السياسية و الاجتماعية ساد الأمة فترة طويلة من تاريخها، إلا في حالات قليلة يتم فيها تجديد الدين بمعانيه الشاملة، ومنها أن اهتمام معظم الدعاة والوعاظ بالجانب الإيماني والعبادي و الأخلاقي على حساب الجوانب الحياتية العامة، ومنها أن الفهم العميق لدين الإسلام أنه رسالة وأنه ولاء وبراء، وأنه حرص على الخير ونشر له في جوانب الحياة كلها، أمر يضيق عنه صدر كثير من الناس، ويكل عنه فهم بعضهم، ويتعارض مع مصالح خصوصية في أعراف المجتمع يصعب التحرر من ضغطها، ويفرض تكاليف عملية يقنع الكثير من الناس نفسه أنه يمكن أن يحقق استقامته، دون أن تأخذ من وقته، وجهده. لهذه الصعوبات وغيرها علينا أن لا نستعجل فنحكم بأن مظاهر التدين في العبادة لم تؤت أكلها فستؤتيه بإذن الله عز وجل وقد قال تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر ". و أهل التدين رغم ما يلاحظ عليهم أو على بعضهم هم أقل الناس انحرافا وأبعدهم عن كبائر الإثم والفواحش. وقد وضعوا اللبنات الأولى للاستقامة الشاملة، وميدانهم ميدان خصب للدعوة إلى بقية جوانب الدين الأخرى ذات المنحى الرسالي القيمي العملي، فمن لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي لا طمع في أن يخاطب بالوفاء ولا بالولاء، ولا بالإخلاص، ولا بالصدق والإتقان، ولكن الذي صلى وصام وقرأ القرآن وحافظ على أذكاره كثيرا ما تنتقل به عبادته الخاصة إلى مجال العبادة العامة، وإن كان له انحراف فقل ما يكون على مستوى القيم والأخلاق المرغوبة اجتماعيا، وإنما يكون انحرافه إذا ضعف فهمه للإسلام في مجالات لم يدرك عموم المجتمع أنها من مجالات العبادة والاستقامة. وخلاصة القول أن التدين الجماهيري مطلوب في حد ذاته، وطريق إلى ما بعده، وعلى المسلم أن يسعى لتعميمه وتعميقه، والترحيب بكل لبنة توضع لتحقيقه، نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا. هذا والله أعلم. نقلا عن موقع البشير الدعوي |