
1- سقوط الأمر والنهي في هذا الزمان
فمن هذه التصورات الخاطئة : تصور أن الأمر والنهي أمران غير لازمين في هذه العصور المتأخرة ، لأن الزمان قد فسد ، ولأنه لا تنتظر نتيجة من الأمر والنهي ، ولأننا في زمن الخويصة.
وهو تصور خاطئ ، لأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن شطبها بالأوهام.
ولأن فساد أهل الزمان يقتضي بذل الجهد في الإصلاح لا التخلي عنه ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق ، فالمهم الآن هو تكثير سواد هذه الطائفة وتقويتها والجهاد في سبيل الله معها.
أما عدم انتظار نتيجة من الأمر والنهي فليس مبررا كذلك للترك وقد قال الله عز وجل : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ( سورة الذاريات :55)وقد قال الناجون من أصحاب السبت ردا على من قال لهم ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) ( سورة الأعراف : 164 )
وقد قال ابن العربي من المالكية إن النهي عن المنكر فرض " قبل أولم يقبل . " أحكام القرآن ( 2/197)وإذا لم يفد الأمر والنهي في القضاء على المنكر ساهم في تقليله وتخفيفه ، ولفت الأنظار إلى أنه منكر ، وأشعر الفاعلين بوجود ناقمين عليه ، وكل ذلك له دور لا ينكر في التغيير المطلوب.
ولأن حديث الخويصة الذي يتشبث به بعض الناس حديث ليس من الصحة بالمكان الذي يستطيع به معارضة القرآن والسنة الصحيحة فهذا الحديث رواه الترمذي في أبواب التفسير من سننه وأبو داود في كتاب الملاحم –باب الأمر والنهي وابن ماجه في كتاب الفتن -باب قوله تعالى ( عليكم أنفسكم ) عن عتبة بن أبي حكيم أخبرنا عمرو بن جارية اللخمي عن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال أية آية ؟ قلت قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال أما والله لقد سألت َ عنها خبيرا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم . "
قال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب ." ( هذا ما قاله الترمذي في سننه كما في تحفة الأحوذي لأبي العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (8/336-338)وعارضة الأحوذي(11/181-182)وهو الذي نقله المنذري في مختصر السنن (6/189)وفي الترغيب والترهيب(5/299 بتحقيق محي الدين عبد الحميد )وهو الذي نقله القرطبي في تفسيره (6/221)والعراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (2/335مع الإحياء) فما وقع في تفسير ابن كثير (2/109) من أن الترمذي قال فيه " حسن غريب صحيح ." خطأ مطبعي أو وهم.)
وروى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك (4/322) وقال " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . " وأقره الذهبي .
وعتبة بن حكيم صدوق يخطئ كثيرا وثقه غير واحد وتكلم فيه غير واحد ، فيبعد تصحيح حديث مثله، ولذلك فإن هذا الحديث لا يرقى إلى الدرجة التي تجعله يعارض نصوص الكتاب والسنة الصحيحة ،أضف إلى ذلك أن الحديث يتحدث عن واقع معين لا يستطيع الإنسان فيه أن يغير المنكر ، ولذلك جاء في رواية ابن ماجه " حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه , ورأيت أمرا لا يدان لك به . " أي لا قدرة لك على مواجهته فهذا الحديث تفسير لحديث مسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان . " رواه مسلم.
وقد نبه ابن تيمية على ذلك فقال في مجموع الفتاوى ( 14/479) : " فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهي ، لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان في هذه الحال ، وبقي القلب . "
وهكذا قال الجصاص الحنفي قبله في أحكام القرآن (1/266) :" هذا الحديث لا دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر ، لأن ذكر تلك الحال ينبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان ، لشيوع الفساد وغلبته على العامة ، وفرض النهي عن المنكر في هذه الحال إنكاره بالقلب .كما قال عليه السلام: " فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه . "
جهاد البيان (22)