إسلام ويب
ولد الإمام العَلَم الحافظ أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي المخزوميبالمدينة النبوية لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: لأربع مضين منها، وكان لجدِّه صُحْبة، فقد روى أن جده حزنا أتى النبي صلى الله وعليه وسلم فسأله: (ما اسمك؟) قال: حزن، قال: (بل أنت سهل)، قال: يا رسول الله، اسم سماني به أبواي وعُرفت به في الناس، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قال سعيد: "فما زلنا تُعرف الحُزونة فينا أهل البيت"، وفي لفظ: "فما زالت تلك الحُزونة فينا بعد".
ورغم نسبه القرشيِّ في أعرق بطونها - بني مخزوم - إلا أنه نشأ وترعرع وتعلم في المدينة - عاصمة الخلافة ودرة الأمصار الإسلامية -, وظلَّ فيها طوال حياته لم يفارقها أبداً إلا لحجٍّ أو عمرة أو جهاد, وكانت المدينة بها ثُلَّةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضوان الله عليهم, فاستغنى بالمدينة عن غيرها، واجتهد في طلب الحديث منذ صغره، وسمع من كبار الصحابة: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبا موسى وسعداوعائشة وأبا هريرة وابن عباس ومحمد بن سلمة وأم سلمة وخلقا سواهم، وكان يسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
امتُحِنَ من بني أمية فلم يتزعزع، ولم تأخذه في الله لومة لائم، وكان صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة، وكان كاسمه بالطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيداً.
مناقبه وثناء الأئمة عليه:
كان عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، ولم يكن أحدٌ أعلم منه بأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى قال عنه قدامة بن موسى: "كان ابن المسيب يفتي والصحابة أحياء".
ولشدَّة اهتمامه بالحديث أحبَّه الصَّحابة جميعاً, وأثنَوا عليه, وزوَّجه أبو هريرة رضي الله عنه من ابنته, واصطفاه بالرعاية والعناية, وحمل سعيد بن المسيِّب حديث أبي هريرة كلَّه - وهو الصحابيُّ الأكثر روايةً من بين الصَّحابة -, كما اختصَّ سعيد بن المسيِّب بحديث ابن عمررضي الله عنهما، وحمل عنه علمَ أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, خاصَّة أقضيته الشهيرة, حتى برع فيها, وصار النَّاس يسألونه عنها حتى في وجود ابن عمر نفسه.
قال علي بن المديني: "لا أعلم في التابعين أحدا أوسع علما من ابن المسيب، هو عندي أجلُّ التابعين"، وعن مكحول قال: "طفتُ الأرض كلَّها في طلب العلم, فما لقيتُ أحداً أعلم من سعيد بن المسيِّب".
وقال محمد بن يحيى بن حبان: "كان المقدم في الفتوى في دهره سعيد بن المسيب"، وعنميمون بن مهران قال: "أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها، فدُفِعت إلى سعيد بن المسيب".
وقفات مع سيرته:
أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة التابعي الجليل سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى ورضي عنه - :
- عبادته وحرصه على الصلاة في جماعة: كان ناسكا مُتعبدا مُحافظا على صلاة الجماعة حتى قال عنه بُرْد مولاه: "ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد"، وقال عن نفسه: "ما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة، وما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل علي قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق"، وكان يُكثر أن يقول في مجلسه: "اللهم سلِّم سلِّم".
وأما عن صيامه فيقول يزيد بن أبي حازم: "كان سعيد بن المسيب يسرد الصوم، ويقول ابن حرملة عن حجه: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "لقد حججت أربعين حجة".
- محنته مع بني أمية: عاصر الإمامُ سعيد بن المسيِّب عهدَ الخلفاء الراشدين، عثمان وعليّاًرضي الله عنهما، ومن بعدهما معاويةَ رضي الله عنه، وجالس الصحابة وعاشرهم، ونال من علومهم، ثم رأى بعد ذلك تبدُّل الأحوال وتغيُّر الناس، ورأى الاقتتال على الملك، فلم يرضَ على سياسة بني مروان، فآلى على نفسه أن لا يسكت على ظلم يراه ومنكرٍ يظهر، ورفض أن يأخذ عطاءه من بيت المال، واستغنى عن ذلك كله.
- عزة نفسه وثباته على الحق: كان عزيز النفس ثابتا على الحق لا يخاف في الله لومة لائم، يقول عمران بن عبد الله: "كان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفا عطاؤه، وكان يُدعى إليها فيأبى ويقول: لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان".
وعن يحيى بن سعيد قال: "كتب والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان أن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب، فكتب أن اعرضه على السيف، فإن مضى وإلا فاجلده خمسين جلدة، وطف به أسواق المدينة، فلما قدم الكتاب على الوالي دخلسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيب، فقالوا: إنا قد جئناك في أمر، قد قدم فيك كتاب من عبد الملك بن مروان إن لم تبايع ضُرِبت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل لا ولا نعم، قال: فيقول الناس بايع سعيد بن المسيب، ما أنا بفاعل، قال: وكان إذا قال لا لم يطيقوا عليه أن يقول نعم، قال: مضت واحدة وبقيت اثنتان، قالوا: فتجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أياماً فإنه يقبل منك إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك، قال: وأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة، حي على الفلاح، ما أنا بفاعل، قالوا: مضت اثنتان وبقيت واحدة، قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره، فإنه يرسل إلى مجلسك فإن لم يجدك أمسك عنك، قال: فرقًا لمخلوق، ما أنا بمتقدم لذلك شبراً، ولا متأخر شبراً، فخرجوا وخرج إلى الصلاة صلاة الظهر فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه فأُتيَ به فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين، فلما رآه لا يجيب أُخرِجَ إلى السدة فمدت عنقه وسلت عليه السيوف، فلما رآه قد مضى، أمر به فجُرِّد، فإذا عليه تبان شعر، فقال: لو علمت أني لا أقتل ما اشتهرت بهذا التبان، فضربه به خمسين سوطاً، ثم طاف به أسواق المدينة، فلما رده والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه لوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة".
قال محمد بن القاسم: "وسمعت شيخنا يزيد في حديث سعيد بإسناد لا أحفظه، أن سعيداً لما جُرِّد ليضرب، قالت له امرأة: إن هذا لمقام الخزي، فقال لها سعيد: من مقام الخزي فررنا".
وفاته:
لمّا اشتدَّ وجعُ سعيد بن المسيِّب، دخل عليه نافع بن جبير يعودُه فأُغمي عليه, فقال نافع: وجِّهوه, ففعلوا, فأفاق, فقال: مَن أمركم أن تُحوِّلوا فراشي إلى القبلة, أنافع؟ قال: نعم، فقال له سعيد: "لئن لم أكن على القِبلة والمِلَّة, والله لا ينفعُني توجيهكم فراشي".
وعن يحيى بن سعيد قال: لما احتضر سعيد بن المسيِّب ترك دنانير، فقال: "اللهمَّ إنك تعلم أنِّي لم أتركها إلا لأصونَ بها حسبي وديني".
توفي الإمام سعيد بن المسيب بالمدينة النبوية سنة أربع وتسعين من الهجرة - في خلافةالوليد بن عبد الملك -, وعمره خمس وسبعون سنة, وكان يُقال لهذه السنة التي مات فيهاسعيد: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات منهم فيها، رحمه الله رحمة واسعة.