​الشيخ الغزالي.. فارس الكلمة والميدان

خميس, 08/20/2015 - 20:15

ما سمعتُ في حياتي قط العلامة الفقيه فضيلة الأستاذ الشيخ حسن أيوب يبكي على أحدٍ، كما سمعته يبكي على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في درس له بـ"الكويت"، ثم في مناجاة خاشعة وابتهال مؤثر بخطبة جمعة بالسعودية بكى وأبكى فيها الكثير، ثم في رؤيا مناميه رأيتها له، ﻻ مجال ههنا لذكرها، وقد سمعها مني فضيلته وهو على قيد الحياة، ثم على وفاة فقيد الإسلام والمسلمين، العالم الجليل، والمجاهد الكبير، والمربي العظيم، فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، حتى تعمدتُ الانتقال من عزائي لفضيلته (عبر الهاتف) إلى موضوع آخر بعيدًا عن وفاة فقيدنا، خشية أن يجهش بالبكاء وأنا لا أحتمل.

 

ومع أن الشيخ "الغزالي" عالِم وليس نبيًا أو رسولًا؛ إذ لا نبوة ولا رسالة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه حريٌ به أن تكون قلوب العارفين بالله من العلماء والفقهاء وطلاب العلم والصالحين مقرًا لمحبته وتقديره.

 

ولا عجب، فإن فروسية "الغزالي" فذة وفريدة من نوعها، فهو بلا ريب من الفرسان القلائل في حلبة الصراع بين الحق والباطل، وواقع الدعوة المعاصر يقرر هذه الحقيقة، عبر مشوار حياته المفعم بطول الكفاح والجهاد، والمتتبع لكتابات "الغزالي" ومناظراته ومواقفه في ساحات الدعوة والقضاء والسياسة، وغير ذلك، يدرك ما أذكر هنا بحقه، إذ لا مجال ههنا للتفصيل وذكر الشواهد.

 

لقد نصر الله به الحق في ميادين شتى، كانت أحوج ما تكون فيه إلى داعية متجرد وعالم مخلص، لا يرجو في مواقفه إلا الله واليوم الآخر، لقد ذبَّ "الغزالي" عن حياض الإسلام ضد قوى الشر المتباينة في الداخل والخارج، وفضَح المتربصين من العلمانيين والليبراليين والشيوعيين والصليبيين واليهود في مواقفهم المناهضة ضد الإسلام والمسلمين، وأيما علماني أو ليبرالي، أو شيوعي أو صليبي، أو يهودي أو ملحد، اقترب من حصن الإسلام المنيع، يريد أن يتطاول عليه، أو ينال منه، بالطعن أو بالتشكيك، بالهمز أو باللمز، إلا وانبرى له "الغزالي" يبارزه في الميدان، بحججه البالغة، وبراهينه الدامغة، سرًا وجهرًا، بلسانه وقلمه، لرد كيد الحاقدين والخونة من خصوم الإسلام وأعدائه إلى نحورهم، وكان النصر المؤزر حليفه في كل مبارزة.

 

 

وكان "الغزالي" رحمه الله لا يخشى على الإسلام من خصومه وأعدائه، بقدر ما كان يخشى عليه من جهل أبنائه وعجز علمائه وتسلط حكامه؛ لأن عداوة الخصوم والأعداء ظاهرة يمكن تفادي مخاطرها والاستعداد لها، وقاوم طويلًا التخلف الفكري، والغزو الثقافي، والجمود الفقهي، والضعف العقائدي، والتسلط السياسي، الذي (غيّب) أمتنا عن وعيها الإسلامي الصحيح قرونًا من الأزمان، فأضاف إليها (عقلاً جديداً ) يُحْسِنُ التأمل والتجديد والإبداع، لفهم تراثنا الإسلامي والتاريخي والحضاري المجيد.

 

 

وكان "الغزالي" رحمه الله وطنيًا حكيمًا، غيورًا على دينه وأمته، فكان يحسن الاستفادة من إيجابيات العلوم الغربية، دون تعصب لدين أو مذهب، أو جنس أو وطن، وعزَّ عليه أن تصبح خير أَّمَّةٍ أُخْرِجَت للناس في ذيل الأمم، وأن يتبوأ أبناء القردة والخنازير مكان الريادة في المال والقوة والعلم والتقنية.

 

 

وكان "الغزالي" رحمه الله شديد الخوف على الشباب من حماسهم للرسالة بغير إدراك أو فَهْم، وإخلاصهم لدينهم بغير صواب أو فقه، واندفاعهم في شؤون دعوتهم بغير بصيرة أو تعقل، وكان من أشد ما يؤلمه الإساءة للدين باسم الدين، والتطاول على العلماء والفقهاء والأئمة باسم العلم، وأن يبلغ الجهلة وقصار النظر وأصحاب الشهوات والأهواء (سُلَّم القيادة) في كثير من الأنظمة والهيئات والجماعات، وكان مما يثير اشمئزازه أن يعلو الصياح على العلماء والفقهاء بغير أدب ولا تقدير، وأن ينال (الأقزام) من ناطحات السحاب لخلاف في الرأي أو اجتهاد في الفقه.

 

 

وكان مما يؤرقه عجز الدعاة وحملة الرسالة عن صفاء قلوبهم ونقاء سريرتهم من الأحقاد والضغائن، وأن تكون المنابر مرتعًا لضعاف النفوس ومرضى القلوب، ومن لا يشعرون بآلام المقهورين وأوجاعهم.

 

 

وكان مما يُفَزِّعُهُ هم الاشتغال بالمختلف فيه عن المتفق عليه، وهواية الاشتغال بالجزئيات عن الكليات، وبالفروع عن الأصول، وأن تكون القشور والشكليات والفوضى واللامبالاة ديدن الكثير من المنتسبين للإسلام، وكان يرى أن فقر المعرفة بالدين أضَرَّ على الأمة من فقر الدم، وأن إدمانها للرذائل والمعاصي أخطر على حياتها من السرطان والإيدز.

 

 

لقد خَلَّفَ "الغزالي" تراثًا هائلاً من العلم والفكر، المستنير الراشد، بلغ أربعة وتسعين كتابًا، تُرْجِم أكثرها إلى لغات عدة، تزخر بها المكتبات في كل مكان من العالم، وقد نفع الله بها عقول علماء ومفكرين ودعاة وأئمة وكثير من طلبة العلم في كثير من بلاد الإسلام والعروبة.

 

وحاضر "الغزالي" وناظر، وألف وكتب، وخطَبَ ودرَّسَ، وناقش وحاور، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وكان في ذلك كله دائم التألق في شبابه وشيخوخته، حتى قبيل وفاته بلحظات، في ندوة "الإسلام والغرب" بالرياض في 20/10/1416هـ الموافق 9/3/1996م، عن عمر ناهز الثمانين عامًا، ومع ذلك كله لم يغْتَرّْ بعِلمٍ أو شُهْرَةٍ، ولم يُفْتَنْ بجاه أو منصب، ولم يسع لكرسي أو سلطة.

 

 

وأنا واحد من الذين تربوا على كُتُبِهِ دون أن أراه، وتأثرت به فكرًا ومنهجًا وأسلوبًا، وكنتُ أتمنى أن أحظى بشرف لقائه والقرب منه؛ للتزود من علمه وسلوكه وأخلاقه، كما تزودت من شيخنا الجليل حسن أيوب، ويأبى الله إلا أن يموت ويرحل دون أن أنال ذلك الشرف العظيم، وعسى الله أن يجمعني به في مستقر رحمته في الفردوس الأعلى إنه على ما يشاء قدير.

 

وأخيرًا: ترك "الغزالي" أمته ورحل وهي أشد ما تكون حاجة إليه، حيث تندك حصون الإسلام في كثير من معاقله، ويسود الصف العربي والإسلامي التشرذم والضياع، ويئن أكثره من وطأة الظلم والقهر والاستبداد، وحُوصِرَ العاملون للإسلام في كل مكان من العالم بزعم مكافحة الإرهاب، وتآمر الخصوم والأعداء داخليًا وخارجيًا على إبقاء صورة الإسلام في نفوس أتباعه ومناوئيه ممسوخة مشوهة، كما تآمروا مؤخرًا على إزهاق ما ظهر من روحه الجهادية الوثابة على أرض الإسراء والمعراج للقضاء على ما ظهر من أنفاسه الحية.

 

 

وفقيدنا رحمه الله ببصره الثاقب، وبصيرته الوثابة، وتقديره للأمانة، كان دائمًا يرمق هذا وذاك وهؤلاء وهؤلاء عن كثب؛ ليكشف لأمته ما يراد للإسلام من مكر وكيد، وتدمير ومحق؛ إبراءً لذمته؛ ونصحًا لأمته.

 

ومع أن "الغزالي" بشر يصيب ويخطئ، ويؤخذ من قوله ويترك، إلا أنه وبغض النظر عما اختُلِفَ فيه، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.

 

إن فقيدنا "الغزالي" أعَزَّ الله في شبابه وشيخوخته، فأعزه الله في حياته وبعد مماته، وأعز أولاده كذلك وأهله من بعده، وقد أحسنت السلطات السعودية تكريمه:

 

أولاً: حين منحته في حياته جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية؛ تقديرًا لجهوده في خدمة الإسلام والدعوة.

 

ثانيًا: حين أرسَلَتْ بعد وفاته طائرة ملكية خاصة لنقل أبنائه وعائلته من مصر إلى السعودية لتشييع جنازته ثم أعادَتْهم ثانية إلى مصر بعد انتهاء مراسم الدفن والعزاء، وأداء مناسك العمرة.

 

ثالثًا: حين دفنته بـ"المدينة المنورة" تنفيذًا لوصيته، وكان فضل الله عليه عظيمًا حين جُعِلَ مثواه بـ"البقيع"، قريبًا من مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قبري الإمام نافع والإمام مالك رضي الله عنهما.

 

إن الموقف المشرف للسلطات السعودية في تكريم الشيخ "الغزالي" حيًا وميتًا يُعَدُّ في تاريخنا العربي المعاصر أمرًا فريدًا ورمزًا شحيحًا لتكريم العلم، في سابقة تكررت فيما أعلم:

 

أولًا: مع العالم الجليل المحدث فضيلة الشيخ محمد الأودن رحمه الله حين أمر جلالة الملك فيصل رحمه الله بنقل جثمانه من جدة على طائرة خاصة إلى المدينة المنورة؛ ليدفن هناك بالبقيع تكريمًا له، بعد أن أمضى تسع سنوات بالسجون المصرية على عهد عبدالناصر، وأُدْخِلَتْ عليه الوحوش الضارية من الكلاب المنهومة؛ لتنهش لحمه، فإذا بها تحوم حوله وتشمشم فيه، دون أن تمسه بأذى أو سوء، وكأنها دخلت لحراسته.

 

ثانيًا: مع المفسر القرآني الجليل فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، حين أرسلت السلطات السعودية كذلك طائرة خاصة لتحمله من مصر إلى لندن للعلاج إثر أزمة صحية اشتدت به.

 

و"الغزالي" و"الأودن" و"الشعراوي" مصريون، من جهابذة العلم الثقات، ومن مشاهير الراسخين فيه، وكان تقديرهم من السلطات السعودية، هذا التكريم الكبير، على ذلك النحو المدهش.

 

ولا عجب في تكريم "الغزالي" على نحو ما سلف فهو -والله أعلم- عند الله أكرم، نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكي أحدًا على الله؛ فقد جعله ربه للإسلام سيفًا، وللدين عِزَّا؛ إذْ منحه الرسوخ في العلم؛ والثبوت في القدم؛ والنور في البصيرة؛ والفقه في الدين؛ والسعة في الأفق؛ والرحابة في الصدر، والتوسع في البحث؛ والشمولية في النظر؛ والعمق في التأمل؛ والتأني في الحكم؛ والشجاعة في الرأي؛ والجرأة في الحق، والصلابة في الدين؛ والثبات في التحدي؛ والرضا بالبلاء؛ والصبر في المحن؛ والتسامح في شموخ؛ والصفح في قوة؛ حتى أصبح في فكره وتأملاته وثباته وجرأته مدرسة للنابغين لا تعرف في الحق مهادنة.

 

رحم الله شيخينا الجليلين "الغزالي وأيوب" وأسكنهما فسيح جناته، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".

 

-----------------------------

المصدر : موقع إسلاميات