كمال السنانيري.. الشهيد الزاهد

ثلاثاء, 09/15/2015 - 17:55

أ. د. رشاد محمد البيومي

 

        كان مثالاً للزهد والتجرد.. نموذجًا فريدًا لصدق الالتزام مع الله.. رائدًا في عزيمة الرجال وصلابة المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بالتقوى والورع؛ فعملوا لدينهم ودعوتهم، ولم تفتُر عزيمتهم ولم يقل جهدهم.

 

صدق مع الله ومع نفسه ومع إخوانه؛ فاجتباه الله لينضمَّ إلى كتيبة الشهداء، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).

 

عرفته معرفةً عابرةً قبيل محنة 54 شابًا وسيمًا، تدلُّ ملامحه ومظهره ومسلكه وزيُّه على كرم المحتد وعراقة الأصل، كان مديرًا لإحدى الشركات، ومع ما يصاحب تلك الوظيفة من مظاهر، فقد كان شديد التواضع، تحس منه روح الأخوة النقية الطاهرة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على الصدق وسلامة الصدر.

 

ودارت بنا الأيام، وجمعتنا سجون عبد الناصر وفي الواحات كان كمال السنانيري أمةً متفردةً وصورةً ليس لها مثيل، ونوعية من الرجال نادرة، كان قد أُصيب في أذنيه من التعذيب في السجون الحربية حتى كاد يفقد السمع، وكان يضع يده خلف أذنه، ويقترب منك حتى يسمع مع ما تقول بصوت عالٍ، وحرر له طبيب السجن تقريرًا طبيًّا رُحل بموجبه إلى سجن مصر (قره ميدان سابقًا)، وحوّل إلى قصر العيني ليعرض على أحد مشاهير طب الأذن (وهو الدكتور إسكندر فاكتشف أن طبلتي الأذنين فيهما ثقب وبحاجة إلى الترقيع، وفعلاً تمت العملية الأولى ليعود كمال وقد تحسن كثيرًا عن ذي قبل، وبعد فترة أجريت له العملية الثانية، ليصبح سمعه أحسن كثيرًا؛ حتى إنه كان لا يحتمل الأصوات العالية، وكان هذا من فضل الله عليه.

 

أما حياته في السجن، فكانت صورة مضيئة للعابد المتجرد والزاهد، فقد أمضى 20 عامًا من حياته وهو يصوم صيام داود (يصوم يومًا ويفطر يومًا)، لا يمنعه عن ذلك حتى المرض.

 

أما طعامه فحدث عنه ولا حرج، فقد كان مطعمه الوحيد دونما أية إضافة أو تحسينات هو طعام السجن، وما أدراك ما هو تعيين السجن (كما يسمونه) هو شيء من المجاهيل التي لا يُعرف كنهها أو نوعها أو رائحتها، هو شيء دائمًا ما يكون أخضر اللون.

 

ولمّا لم نستطع التعرف عليه لجأنا إلى تسميته اسمًا كوديًّا (الزقفيلم)، وكان هذا الطبيخ لا يمكن أكله خصوصًا إذا كان باردًا، لذا كنا نلجأ إلى تحسينه بإضافة بعض التوابل وتسخينه بالطرق المتاحة، أما الأخ كمال فكان يزدرد هذا الطعام على حالته باردًا، ولم يكن هناك من سبب أو مبرر إلا يهذب نفسه على احتمال المشاق زهدًا وتقربًا إلى الله وتعويدها على أن تتقبل وتحتمل ما تلاقيه من صعاب ابتغاء رضوان الله ورحمته.

 

أما ملبسه، فقد كانت ملابس السجن الخشنة فقط وملابس السجن عبارة عن نسيج بدوي يتم تجهيزه في السجون من خيوط غليظة الملمس سميكة زرقاء اللون للملابس الخارجية وبيضاء اللون للملابس الداخلية وكان يسمح لنا تجاوزًا بلبس الملابس الداخلية العادية فقط؛ ولكن الأخ كمال كان يصر أن تكون ملابسه كلها من نسيج السجن، الداخلية والخارجية.

 

وحتى عندما أتيح لنا في السنوات الأخيرة لبس ملابس مصنوعة من قماش الدمور؛ رفض أن يشارك في هذا ولو على سبيل الرخصة.

 

كان دائمًا أبدًا مسئولاً عن النواحي المالية للجماعة داخل السجن، ومع قلة المال (إذ أن الجميع كانوا قد فصلوا عن أعمالهم)، فقد كان الأخ كمال يعمل على أن يكفل لإخوانه ما يستطيع من الضرورات (والقليل من الكماليات)، والعجيب أنه كان يحرم نفسه من كل هذا مكتفيًا بمقررات السجن، وكان دائمًا ما يتفقد إخوانه، محاولاً التعرف على احتياجاتهم ومتطلباتهم ليلاً ونهارًا.

 

وسارت بنا سفينة الحياة، ورحل الأخ كمال للعلاج في ليمان طرة، وهناك التقى الأستاذ سيد قطب وعاش معه فترة ليست قصيرة، وتفاعل معه انطلاقًا من الولاء لفكر الجماعة والتزامًا بمنهجها، وهناك تمت أول صور التكافل الأسري حيث تم الارتباط بين الأخ كمال والأخت الفاضلة السيدة أمينة قطب شقيقة الأستاذ سيد، وكانت هذه فاتحة خير إذ تطوع عدد من الأخوات قدمن أنفسهن كزوجات المستقبل للإخوان الذين كانوا مسجونين (وذلك دعمًا لهم وتشجيعًا على مواصلة الطريق)، وما أروعها من تضحية ويا له من إيثار قل أن يوجد في زماننا هذا (وقد صبرت الأخت أمينة راضية لمدة اثني عشر عامًا في انتظار الأخ كمال حتى أفرج عنه عام 1974 وبنى فيها الأخ كمال بعد الإفراج وعاشا في شقة بعمارة أمام مبنى مباحث أمن الدولة في لاظوغلي وكانا أسعد زوجين ولم ينجبا).

 

وعاد كمال إلى سجن الواحات ثم تفرقنا هو إلى سجن قنا ونحن إلى سجن أسيوط، ثم أفرج عنه، وما أن وطأت قدماه أرض الحرية حتى عمل جاهدًا مجاهدًا عاملاً لتجميع ما تفرق من الإخوان ولم شملهم مشاركًا إخوانه الكرام مصطفى مشهور وصحبه وسافروا إلى كل مكان في مصر بحثًا عن تفرق من الإخوان وحفزًا لهم لمواصلة العمل والجهاد.

 

ولما حدثت أحداث أفغانستان وتمت المواجهة بين المجاهدين والغزو السوفيتي كان كمال من الطليعة التي سافرت إلى هناك مع إخوانه الكرام (شأنهم ذلك في كل مكان فيه جهاد وفى سبيل الله)، وعمل على جمع كلمة القبائل والفصائل ليكونوا صفًا واحدًا في مواجهة ذلك العدو الغازي وكان لهم (بفضل الله) ما أرادوا.

 

وجاءت محنة 1981 وقبض على كمال السنانيري مع عدد من الإخوان، وكان هؤلاء الذين لطخت أيديهم بالدماء، أصحاب التاريخ الملوث بسوء السمعة، أبوا إلا أن يمارسوا أبشع أنواع التعذيب على الأخ كمال وبخاصة المدعو (فؤاد علام)، الذي يكن حقدًا ومرارةً تجاه الإخوان وتمادى في تعذيبه، حتى أن أحد الإخوان شاهده خلسة في أحد المرات وقد أدمت الجراح جسده وهزل جسمه وحلقوا له نصف ذقنه (إمعانًا في الإيذاء ومحاولةً للإذلال) وبقي الأخ كمال صابرًا محتسبًا كعادته..

 

ولكن كَبُر على هؤلاء المجرمين الظلمة أن يظل صامدًا صلبًا فقتلوه شر قتلة..

 

وللعجب فإنهم أعلنوا أنه مات منتحرًا، كيف هذا قالوا إنه شنق نفسه في كوع حوض دورة المياه، مع العلم أن هذا الحوض يرتفع عن الأرض بـ120 سم والأخ كمال لا يقل طوله عن 170 سم، فكيف ثم هذا؟.

 

الله شاهد على هذه الجريمة النكراء، ولعليّ أتذكر هنا المقولة "إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا، ولكن الله طمس على بصيرة هؤلاء فلم يجدوا تبريرًا لذلك الفعل المشين إلا هذا الادعاء المنكر..

 

استشهد كمال السنانيري، تلك الهامة العالية والقمة السامقة، وذهبت روحه إلى رب الأرض والسماء تشكو إليه ظلم الظالمين وجور العتاة المجرمين تاركًا أثرًا غاليًا ومثلاً نادرًا في التجرد والسمو والإخلاص لربه ولدينه ودعوته، فجزاه عما قدم كل الخير، ونسأل الله أن يلحقنا به في الصالحين، ولذكره الأجيال نموذجًا للمجاهد الصابر الزاهد المتجرد، وتلعن هذا التردي الرخيص الذي أودى بحياته لا لجرم إلا أن يقول ربي الله..

 

هكذا نرى أن صناعة الرجال كانت نهجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار الإمام البنا مقتفيًا أثر قائدنا ورائدنا ومعلمنا رسول الله فصنع رجالاً اعتنقوا الفكرة الربانية عقيدةً راسخةً ملأت عليهم نفوسهم فهيأوا النفس لها وللتعامل معها وترجموها سلوكًا فريدًا نادرًا في رخائهم وفي شدتهم فكانوا مثلاً عليا ونماذج يحتذى بها، هذا في زمن اختلطت فيه المعالم حتى أصبح الكثير من المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، بل إنهم وصموا أصحاب الدعوة والعاملين لها بالإرهاب تارة وبالتطرف تارة أخرى بل وتحالفت قوى العلمانية والطغيان في محاولة لتشويه صورة الداعين إلى الله والعاملين لرفع لوائه، وتبدى هذا في أجلى صوره في ذلك الإعلام المأجور الموجه أو الإعلام الأمني في دور فعال لإشعال نار الفتنة بالنيل من كل ما هو جاد مؤثر في المجتمع لحساب التحلل والتفلت من كل القيم والتردي إلى مهاوي الضلال، فهل آن لأمتنا أن تعي وأن تفيق من غفوتها وتواجه هذا الطغيان وهذا العبث بالقيم ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾ (الحديد).

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

عضو مكتب الإرشاد.