الكاتب: محمد يحي احريمو
ألف الإمام جلال الدين السيوطي رسالة قيمة بعنوان : " تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء" ؛ بين فيها خطورة ضرب المثل بالأنبياء في الأمور الجائزة إذا وقع خارج سياق التعظيم والتوقير والاقتداء، بل على سبيل الاحتجاج الشخصي ودفع الحرج؛ كقول القائل : " إن قيل في السوء فقد قيل في الأنبياء" ؛ وقول المتنبي:
:
أنا في أمة تداركها اللــ ** ـه غريب كصالح في ثمود
وذلك لما فيه من امتهان أسمائهم الشريفة والاحتجاج باحوالهم السنية في سياق غير مناسب .
وقد جود القاضي عياض في الشفاء الكلام في هذا الموضوع - وعليه اعتمد السيوطي وغيره - وهذا نص كلامه:
" الوجه الخامس : أن لا يقصد نقصاً ولا يذكر عيباً ولا سباً ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه وأحواله الجائزة عليه في الدين على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره، أو على التشبه به أو عند هضيمة نالته أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي ... بل على قصد الترفيع لنفسه أو غيره ، أو على سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل والتنذير بقوله : كقول القائل إن قيل : في السوء فقد قيل في النبي صلى الله عليه وسلم ... فإن هذا وإن لم يتضمن سباً ولا أضاف إلى الملائكة والأنبياء نقصاً ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزر حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة ، حتى شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء منها أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره وشرف قدره والزم توقيره وبره ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده ؛ فحق هذا إن درئ عنه القتل: الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو ندوره وقرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه." إهـ كلامه باختصار ( الشفاء 2\238 ط دار الفكر ).
وقد يجترئ بعض الكتاب المعاصرين على أشياء من هذا القبيل؛ فتراهم يهيمون في أودية الضلال طلبا للتنكيت و" التگراح" المتكلف وإيغالا في المبالغة والتفاصح ؛ مع أن الشاعر والبليغ المصقع لا يعجزه أن يجد أوداء يهيم فيها من غير أن يقترف مثل هذا الإثم كما قال أخونا الشيخ محمد بن محمدي - بارك الله فيه – في تدوينة له في الموضوع .
أورد بعض الكتاب هذه الآية الكريمة في شأن من منع سماع الغناء : (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)، فكان ذلك الاقتباس مخالفا لسبيل الأدب فضلا عما يوهمه من حمل الآية على غير محملها !
وجاء بعض الكتاب بعبارة من هذا القبيل فقال في سياق التهوين من بعض من لا يوافقه: إنه " نكرة لو كان شيء يخفى على خالقه لكان إياه ". وهذه زلة لسان - عفا الله عنها - ليست دون قول القائل: " لو سبني ملك لسببته"، التي ذكرها خليل فيما يؤدب قائله... فمثل هذا وإن كان من قبيل القضايا الشرطية التي لا تقتضي الوقوع كما يقول المناطقة؛ إلا أن فيه خروجا عن سبيل الأدب مع الباري سبحانه؛ فهو من قبيل ضرب المثل الذي الف فيه السيوطي. خاصة وأنه يوهم تفاوت علم الباري سبحانه بالجزئيات تعلى الله عن ذلك فقد أحاط بكل شيء علما .
لا مراء أن الأفاضل من هؤلاء الكتاب لم يقصدوا هذا المحذور؛ ولكن وقع في كلامهم ما يوهمه ويقتضيه؛ والشأنُ إقالةُ العثرات من ذوي الهيئات لكن هذا لا يمنع التنبيه والتحذير حتى يعتبر به القراء والكتاب مستقبلا فيجتنبوا مثله.
رضي الله عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فقد غضب غضبا شديدا على كاتبه لما ضرب المثل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا وقال له : " ما وجدت مثلا غير النبي صلى الله عليه وسلم !" وعزله عن الدواوين.
وروى سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم النخعي قال : " كانوا - يعني الصحابة والتابعين - يكرهون أن يتناولوا شيئا من القرآن عندما يعرض من أحاديث الدنيا"؛ قيل لهشيم - وهو أحد رواة الاثر - : نحو قوله (جئت على قدر يا موسى) ؟ قال نعم. (سنن سعيد بن منصور 2\318) .
وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعلى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ): " فائدة ذكر الاسم في هذه ه الأية زيادة التعظيم ، لأن من عظم عظيماً وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه ، فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق ، وذلك لأن من يعظم شخصاً عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه ، فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك ، فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة. " (مفاتيح الغيب 15\179)
فيجب التحرز من مثل هذا نسأل الله أن يوفق الجميع ويهديهم لكل خير .