مطالعة في سيرة عمر بن عبد العزيز

خميس, 10/29/2015 - 13:55

بقلم / محمد الأمين بن الشيخ بن مزيد (المقال منشور في جريدة الشعب قديما)
جاء عمر بن عبد العزيز إلى الخلافة قدرا من الله على غير انتظار فأدرك أن فرصة الإصلاح التي أتيحت له قد لا تتكرر مرة أخرى فكان في سباق مع الزمن.
لقد ملئت الأرض ظلما وجورا من وجهة نظر عمر بن عبد العزيز ولا بد أن تملأ عدلا ، ولا بد أن يتم ذلك في ظرف قصير لأن مرور الزمن وحده لا يكفي لإنجاز الإصلاح ، وكانت المهمة كبيرة ، وكيف لا؟ والدولة مترامية الأطراف تمتد من بحر الصين إلى بحر الظلمات.
وأدرك عمر أنه لا يمكن أن تتم ذرة من الإصلاح الحقيقي مادام المسؤولون الذين مارسوا الفساد في الماضي والذين كانوا هم أداة الظلم يحتلون مناصب الدولة.
فكان لا بد من ثورة إدارية ، فليسقط جميع الولاة الظلمة وليتم اختيار المسؤولين على الأساس الإسلامي وحده : الكفاءة والتقوى.
وتم لعمر بن عبد العزيز ما أراد فكان ولاته مضرب المثل في الأمانة والتقوى حتى قيل من ولاه عمر بن عبد العزيز فهو ثقة.
وكان لابد من ثورة داخل قصر الحكم ذاته فلتسقط الكسروية والقيصرية ولتسقط البروتوكولات الأعجمية.
ومن الآن فإن أبوابَ القصر مغلقةٌ أمام المرتزقة من الشعراء المداحين والمداهنين والمتملقين والكذابين ، ولكنها في نفس الوقت مفتوحة أمام المخلصين الناصحين.
"لما استخلف عمر بن عبد العزيز انقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الزهاد والفقهاء وقالوا ما يسعنا فراقه حتى يخالف فعله قولـــه" تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 2
والأبواب مفتوحة كذلك أمام المظلومين ، بل إن الخليفة يعطى جائزة تتراوح ما بين مائتي دينار إلى ثلاثمائة دينار حلية الأولياء: 5/293 (الدينار=4.25 غراما من الذهب) لكل من يرفع شكوى تكون سببا في إقامة العدل ورفع الظلـــم.
ترى من يسكت على ظلم الولاة بعد الآن؟.
"اليوم ينطق كل من كان لا ينطق" كما قال أحد العلماء واصفا عهد عمر بن عبد العزيز.
انشغل عمر بن عبد العزيز برفع المظالم فكان إذا صلى العشاء جلس في رد المظالم وإذا أصبح جلس في رد المظالم ، ولم يكن لديه وقت يستطيع أن يضيعه ولم تكن له عطلة سنوية ولا عطلة أسبوعية.
قيل لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين لو ركبت في نزهة فتروحت فقال من يجزى عني ذلك فقالوا تجزيه من الغد قال: قد غلبني عمل يوم واحد فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين؟.
لقد كان عمر رضي الله عنه في سباق مع الزمن.
كانت خريطة الأرض الإسلامية أمام ناظر عمر بن عبد العزيز وكان لا بد أن ينشر فيها العدل وأن يمحو منها الظلم ، وكان يشعر كل الشعور بأنه مسؤول عن ذلك أمام الله عز وجل ، وكانت المهمة كبيرة وشاقـــة.
قال عمر بن ذر قال مولى لعمر بن عبد العزيز حين رجع من جنازة سليمان مالي أراك مغتما؟ فقال: "لمثل ما أنا فيه يغتم ليس من أمة محمد في مشرق الأرض ولا في مغربها أحد إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني" 
إن عمر رضي الله عنه يؤدى الحقوق إلى أهلها امتثالا لأوامر الله الذي يأمر بالعدلِ وأداءِ الأمانة إلى أهلها ، والذي يفرض القيام بواجب الرعايــــة.
إن عمر يدرك جيدا مدلول قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما من وال يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة». ويدرك أن هذه الرعاية تقتضي من الإمام الاهتمام التام بكل فرد من أفراد الرعية والتقدم إليه بحقوقه كاملة غير منقوصة من غير حاجة إلى طلب ولا وساطة ولا رشوة ولا انتظار. ويدرك أن الأمر جد وأنه فرض لا تطوع وأن التهاون في حقوق الرعية جريمة.
ولذلك يغتم اغتمام من يشعر بالتقصير مهما بذل من جهد واغتمام من يعرف أن قول المنافقين للمقصر: وفَّيت وللمسيء: أحسنت وللغاشِّ: نصحت لا ينفعه عند الله فيغتم ويتغير لونه وينحل جسمه حتى ينكره من يعرفــه.
تقول زوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان: دخلت عليه يوما وهو جالس في مصلاه واضعا خده على يده ودموعه تسيل فقلت له: ما بالك وفيم بكاؤك؟ ، فقال: ويحك يا فاطمة إني قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت ففكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود واليتيم المكسور والمظلوم المقهور والغريب والأسير والشيخ الكبير والأرملة الوحيدة وذي العيال الكثير والرزق القليل وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة وأن خصمي دونهم يومئذ محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا تثبت لي حجة فلذلك أبكـي. 
ويقول محمد بن كعب القرظي لما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعث إلي وأنا بالمدينة فقدمت عليه فلما دخلت جعلت أنظر إليه نظرا لا أصرف بصري عنه متعجبا فقال: يا ابن كعب إنك لتنظر إلي نظرا ما كنت تنظره فقلت: متعجبا قال: ما أعجبك قال: قلت: يا أمير المؤمنين أعجبني ما حال من لونك ونحل من جسمك ونفى من شعرك . رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد.
وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل الخلافة من أعظم الأمويين ترفا وكانت رائحة عطره تفوح عبر الطرقات التي يمر بها وكان يمشى مشية يقلدها الجواري لحسنها تسمى "العمرية" وكان أحسن الناس لباسا حتى قال: لقد خفت أن يعجز ما قسم الله لي عن كسوتي وما لبست ثوبا قط فرآه الناس إلا خيل إلي أنه قد بَلِيَ.
كان عمر كذلك ولكنه بعد الخلافة انقلب شخصا آخر مختلفا عن الأول تمام الاختلاف.
الرجل الذي كان يستخشن حلة بألف دينار تصبح ملابسه كلها باثني عشر درهما، ويصلى الجمعة في قميص مرقوع الجيب ويجلس في انتظار قميصه ليجف وتصبح نفقته اليومية درهمين ويدخل على امرأته فاطمة بنت عبد الملك فيقول لها: أعندك درهم أشترى به عنبا فتجيبه أنت يا أمير المؤمنين لا تقدر على درهم تشترى به عنبا؟ فيقول لها: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدا في نار جهنم
وتجيء إليه عمته فتجده يتعشى خبزا وملحا وزيتا فقالت يا أمير المؤمنين لو اتخذت لك طعاما ألين من هذا فيقول: ليس عندي يا عمة ولوكان عندي لفعلت.
ليس عند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي كان يحكم الأرض الإسلامية الممتدة من الصين إلى بحر الظلمات درهم لأنه باع جميع ممتلكاته فبلغ ثمنها ثلاثة وعشرين ألف دينار فردها إلى بيت مال المسلمين ثم اكتفى بدرهمين يأخذهما يوميا من بيت المال وليس من الممكن توفير أطايب الطعام بدرهمين مهما رخصت الأسعار.
كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو ابن الأسرة الحاكمة يدرك جيدا من أين جاءت تلك الأموال التي يتنعم بها المحظوظون المقربون من الأمراء؟ وكيف تفتحت أمامهم الأبواب وانداحت العقبات ليثروا بسرعة صاروخية على حساب عامة الناس الذين لا جاه لهم ولا سلطان ولا هالة ولا هيلمان ، كان عمر يدرك ذلك جيدا ولم يكن مستعدا لاستمرار الأوضاع المنحرفة في ظل حكمه لأنه مسؤول عن كل ذلك عند الله تبارك وتعالى.
فكان لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها بأخذ المال من حقه وصرفه في حقه وإعادة الأموال المسلوبة من خزائن الدولة مهما كلف ذلــك من ثمـــــن.
وكان لا بد أن يبدأ عمر بن عبد العزيز بنفسه فليس أسخف من أن يدعو الحاكم إلى التعفف عن المال العام وسياسة التقشف والأمانة والنزاهة والعدل والمساواة ، وهو يعيش مع حاشيته والمقربين منه حياة مترفة تنفق عليها الملايين من ميزانية الدولة بينما لا تكاد تتوفر للرعية ضروريات الحيـــاة.
بدأ عمر بنفسه فباع ممتلكاته وردها إلى بيت مال المسلمين وقال لزوجته إما أن تردى حليك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك فإني أكره أن أكون أنا وهو في بيت واحد. 
فتقول: لا بل أنا أختارك عليه وعلى أضعافه ، ولما ولي أخوها يزيد بن عبد الملك قال لها: إن شئت رددته إليك فتقول: لا والله لا أطيب به نفسا في حياته وأرجع فيه بعد موته( ).
ثم اتجه عمر إلى أقربائه من بنى أمية وكانت لهم أموال طائلة جمعوها بمختلف الوسائل وظلت تنمو مع مرور الزمن فأمر برد كل ممتلكاتهم التي يتصور أنها جمعت بطرق غير شرعية وقد شق ذلك على بنى أمية ففاوضوه في ذلك وقالوا له على لسان مندوبهم: استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك وخل بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم وما لهم فيقول له عمر: أرأيت أن أتيت بسجلين (وثيقتين) أحدهما من معاوية والآخر من عبد الملك فبأيهما آخذ فأجابه الرجل بالأقدم ، فقال عمر بن عبد العزيز: فإني وجدت كتاب الله الأقدم فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني.
ولم يكن عمر رضي الله عنه في هذا العمل الذي قام به مبتدعا وإنما كان متبعا.روى البخاري عن أبى حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلا من بنى أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول هذا لك وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه ألا هل بلغت؟ ثلاثا».
وعلى هذا سار فقهاؤنا رحمهم الله فقد نقل الحطاب في القضاء عن ابن حبيب المالكي أنه قال:كلما أفاده الوالي من مال سوى رزقه (راتبه) في عمله أو قاض في قضائه أو متول أمر المسلمين فللإمام أخذه للمسلمين وكان عمر إذا ولى أحدا أحصى ماله لينظر ما يزيد ولذا شاطر العمال أموالهم حيث كثرت وعجز عن تمييز ما زادوه بعد الولاية.
قال القرافي في الذخيرة: التشطير حسن لأن التجارة لا بد أن ينميها (جاه العمل) فيصير جاه المسلمين كالعامل ، والقاضي وغيره رب المال فأعطى العامل النصف عدلاً بين الفريقين.
ولو طبقت أجهزة الرقابة سنة العمرين لأفلحت. 
اتجه عمر إلى عماله وموظفيه لينهجوا نهجه في العدل وليبتعدوا عن استغلال مناصبهم وليحافظوا على أموال المسلمين فلا يبذرونها تبذيرا فيكتب إلى واليه على المدينـة:
"أما بعد: فقد قرأت كتابك إلى سليمان تذكر أنه قد كان يجرى على من كان قبلك من أمراء المدينة من القراطيس لحوائج المسلمين كذا وكذا فابتليت بجوابك فيه فإذا جاءك كتابي هذا فأرقَّ القلمَ واجمع الخط واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم والملام عليك".
ويكتب إليه وقد طلب منه مصروفات إضاءة خارجية "لعمري لقد عهدتك يا ابن أم حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة من غير مصباح ولعمري أنت يومئذ خير منك اليوم ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك".
روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة".
إن أحكام الإسلام يجب أن تعلن وتبلغ إلى الناس كافة ، وموقف الإسلام من كل الأوضاع والأنظمة والشؤون يجب أن يعرف {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}(سورة الأنفال : 42) ولذلك فلا مجال لأن يتكلم الإسلام سرا ويتحدث إلى بعض الناس همسا بعد قول الله تعالى {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}(سورة الحجر : 93) وبعد قول النبي «بلغوا عني ولو آية».
لذلك فإن السرية في الدعوة إلى الإسلام في مجتمعات المسلمين تتضمن وأدا للإسلام لأن الإسلام جاء لصبغ الحياة ، كل الحياة {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة}( سورة البقرة: 138) وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بالعمل الجاد المصابر المرابط المعلن عن نفسه. أما الهمس والمخافتة والدعوة في الظلام فتتنافى مع طبيعة الإسلام ، لذلك يتهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الهامسين المتناجين ويدعوهم للعمل جهارا نهارا {قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى}( سورة طه : 59)