
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلي الله وسلم علي نبينا محمد ، وعلي آله وصحبه الطيبين الطاهرين .
وبعد فإن للمغتربين مشاكلهم الخاصة ، وهمومهم المختلفة ، التي تمتد إلي ما بعد الموت ، مثل الغسل والدفن والمقبرة الاسلامية ، وغير ذلك من متعلقات الرحلة إلي الدار الآخرة ، نسأل الله حسن الختام ، ومن تلك المسائل والهموم ، مسالة نقل الميت إلي أرض الوطن ، وهي مسالة يتجدد فيها الأخذ والرد كلما حلت مصيبة الموت ولبي أحد أفراد الجالية نداء ربه ، لذلك كتبت هذه الكلمة تذكيرا وتنبيها :
أولا أذكر بأن الخلاف في هذه المسالة وارد ، فقد اختلف فيها السابقون ولا غرو أن يختلف فيها اللاحقون ، وهذا تلخيص مختصر لأقوال أهل العلم فيها :
قال ابن قدامة : لا يُنقل الميت مِن بلده إلى بلد آخر إلاّ لغرض صحيح .
وهذا مذهب الأوزاعي ، وابن المنذر .
قال عبد الله بن أبي مليكة : تُوفّي عبد الرحمن بن أبي بكر بمكان يقال له الحبشي ، " يبعد عدة أميال من مكة ، فحُمِل إلى مكة فدُفِن ، فلما قَدِمت عائشة أتت قبره ثم قالت : والله لو حضرتك ما دُفنتَ إلاّ حيث مُت . اهـ وقريب من هذا الكلام في الفروع لابن مفلح ج 3 ص 327 .
وفي مذهبنا المالكي يجوز نقل الميت بشروط ذكرها الدسوقي في حاشيته علي الشرح الكبير (ج 1/.ص 165): (و) جاز (نقل) الميت قبل الدفن وكذا بعده من مكان إلى آخر بشرط أن لا ينفجر حال نقله، وأن لا تنتهك حرمته، وأن يكون لمصلحة كأن يخاف عليه أن يأكله البحر، أو ترجى بركة الموضع المنقول إليه، أو ليدفن بين أهله، أو لأجل قرب زيارة أهله (وإن) كان النقل (من بدو) إلى حضر. ويقول الخرشي : وجاز نقل الميت من مكان إلى آخر قريب بحيث ترجى بركة الموضع المنقول إليه أو يكون بين أقاربه، بل هو حينئذ مستحب وبحيث لا ينفجر ولا تنتهك حرمته إذا كان المنقول منه حضرا لبدو، بل وإن كان من بدو لحضر.
أما الشافعية فجاء في روضة الطالبين (ج 1/ ص 194): [وأما نقل الميت من بلد إلى بلد قبل دفنه فقال صاحب الحاوي قال الشافعي: لا أحبه إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فنختار أن ينقل إليها؛ لفضل الدفن فيها. وقال صاحب التهذيب والشيخ أبو نصر من العراقيين يكره نقله. وقال القاضي حسين وأبو الفرج الدارمي وصاحب التتمة: يحرم نقله.
وعند الحنفية: يستحب أن يدفن الميت في الجهة التي مات فيها، ولا بأس بنقله من بلدة إلى أخرى قبل الدفن عند أمن تغير رائحته . رد المحتار على الدر المختار (ج 27 /ص115)
قلت يتضح من هذه النقول وغيرها أن عدم النقل هو الأصل وهو السنة بل قد يكون هو الواجب أحيانا ، وأن الذين تساهلوا في النقل أجازوه بشروط ، ومن خلال تجربتنا العملية وما شاهدناه يندر تحقق هذه الشروط ، بل يستحيل احيانا ،
لذلك فالذي أراه في هذه المسالة وأنصح به إخواني في كل الولايات أنه إذا استطعنا تخليص المعاملات كلها خلال أربع وعشرين ساعة لنقل الميت " وهو أمر مستبعد " فبها ونعمت ، وإلا فيجب أن لا نحيد عن سنة المسارعة في تجهيز الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه لما صح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ، وإن يكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم . أخرجه البخاري ومسلم
ولا شك أن النقل يؤدي إلى تأخير هذه السنة وتعطيلها، إضافة إلي ما يتعرض له الميت من امتهان الكرامة وانتهاك الحرمة ، فإن أغلب الولايات تشترط في الميت الذي ينقل خارج البلد نزع أحشائه ومافي جمجمته ، لغرض التحنيط والحفظ ، إضافة إلي تشريح الجثة الذي يعتمد عليه الطبيب الشرعي في تحديد سبب الوفاة ، وهذا لعمري عبث غير مبرر بجثة الميت المحترمة شرعا فقد قال الله تعالي ولقد كرمنا بني آدم . وقال صلي الله عليه وآله وسلم : كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وقال ابن دقيق العيد: إسناده على شرط مسلم.
لذلك فمن الواجب أن نلجم نزوات العواطف ، بعزمات الشرع ، وأن لا نؤذي موتانا بوضعهم في الثلاجات لأكثر من أسبوع لغير غرض أو مصلحة شرعية ، ولقد رأينا من نقل بعد هذه المدة لم يصل إلي البلد إلا في حالة من الامتهان والتغيـّر يرثي لها .
أسأل الله تعالي أن يرحم موتانا وموتي المسلمين جميعا ، وأن يتقبلهم في الصالحين ، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ،
وصلي الله علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم .
كتبه محمد ولد جعفر
مدينة إنديانابوليس ولاية إنديانا
ديسمبر- 23 - 2015