*الداعية محمد حمين
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾
وَلَوْ أَنَّ عَيْناً سَاعَدتْ لتَوَكَّفَتْ ... سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيْماً وَهُطَّلَا
وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ ... فَيَا ضَيْعَةَ الأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلَا
ذلك تأوه أندلسي قديم أطلقه الإمام الشاطبي القارئ على كل لحظة تضيع في غير محراب الطاعة.
بينما هو في حقول العلم والدعوة يتسامى لمقامات الكبار، إذا بالأقدار تسوقه لمتابعة الأخبار وتفاصيل الأحداث اليومية، يتطور الأمر فتصبح العين ملازمة لهاتفه الذكي عند الاستيقاظ وقبل الصلاة وفي المجالس، متابعة للمشاركات والتعليقات والردود والمقاطع المرسلة، يرتفع منسوب المتابعة فتتحسر المشاريع العلمية والدعوية ويتعرض البناء الأسري والاجتماعي أحيانا لهزات عنيفة يضيق المقام عن التفصيل في أسبابها، ذلك هو جوهر نشاطه اليومي الخطير في الظاهرة، مع مرور الزمن وتصرم الأيام نشوء جيل دعوي فاقد للشهية العلمية والدعوية لا صبر له على مطالعة الكتب الجادة ولا حضور الدروس أو حفظ المتون على سنن الأولين، أو المشاركة بقسط عملي جاد.
ففي ملح العلم ولطائفه ومتابعة الأحداث والمهاترات الفكرية والاحتكاك في القضايا الصغيرة ما تستروح له النفس فرارا من ميادين الجد ، وليت الأمر يقف عند تبديد الزمن فقط، بل هو سلسلة متصلة تورث عددا من الأدواء من أبرزها
ما يسمى بانحلال عقد عزائم الخير شيئا فشيئا، وإلى تلك الآثار التربوية يشير الإمام ابن القيم " فإنه يحط الهمم العالية من أوجها الى الحضيض، وربما يعز عليه أن يحصل همة أخرى يصعد بها الى موضعه الذي كان فيه "
بالاضافة إلى ظهور ما يسمى بالتفكير الأفقي المستعجل عند بعض الدارسي، فيصبح المتلقي ضعيف العمق، لا يهتم بغير القشور، فهو في رفوف التسوق البحثي، يبحث عن كل منتج فكري أو سياسي حديث
مع عزوف كلي عن زيارة معامل الإنتاج والبناء وتعني هنا الامهات في كل علم وفن.
ومن أجود من عالج وباح بشجون هذا الجرح الغائر في حياة الدعاة وطلبة العلم الكاتب النبيل ( إبراهيم السكران) حيث دعا في أحد مقالاته النفيسة الى :
١- التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع ، فثمة فرق بين معرفة كيف تشكل الوعي المعاصر وموارده الفكرية ومعاجمه اللغوية، وبين الانغماس في دوامة الأحداث والوقائع في تجاوز للقدر المطلوب
٢- والتمييز بين المتابعة المتفرجة والمنتجة :
ثمة قطاع واسع للأسف ممن يتابع الواقع الفكري والسياسي وبمقصود نبيل وحسن لا تتمخض متابعتهم عن انتاج، لا كما ولا كيفا، بل يتحول لكائن متفرج مراقب مستهلك.
٣- التمييز بين المتابعة زمن التحصيل وزمن العطاء
متابعة الواقع ليس معطى مصمتا ذا درجة واحدة، بل هو عمل يتفاوت قدره حسب المراحل العمرية والمراحل الدعوية والإصلاحية،
ففي السنوات الذهبية للتحصيل العلمي يقدم الانكباب والتركيز للتحصيل والتزكية، بينما مرحلة العطاء والنشر تحتاج قدرا أكثر من المتابعة ... الخ )
الوقت سيف نفيس لا ينبغي أن يثلم في غير الجليل، والأخيار واجباتهم أكثر من أوقاتهم وحري بكل فارغ منتسب للقافلة أن يسائل نفسه عن سند الانتساب.
وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية يتأوه في آخر عمره رغم بذله لزبدة وقته بين جهاد السيف والمداد، فماذا يقول المعاصرون الأخيار!
فقد نقله عنه تلميذه ابن رجب في ذيل الطبقات : "وندمتُ على تضييع أوقاتي في غيرِ معاني القرآن"
من الضوابط المعينة :
١- الاستعانة بالله واستدرار خزائن التوفيق بالدعاء.
يستوقفك في ذلك ما تذكره كتب التراجم والأعلام حين تقول :
( وكان فلان حافظا لوقته موفقا في زمانه )
٢- ترويض النفس على مجاهدة متدرجة تنقل صاحبها من حال الإدمان الى التوازن.
٣- الحفاظ على أصول الطاعات وتهذيبها كالخشوع في الصلاة وقراءة القرآن بتدبر وملأ الفراغات بالمشاريع الجادة فتلك سهام تتآكل معها رقع الاهتمامات الفارغة في حياة المرء
٤- المحاسبة للنفس وفي سياق ذلك يسأل المرء نفسه أسئلة محددة منها:
لماذا أدخل الشبكة ؟ فتحديد المقاصد والنيات من الأشرعة المعينة عند ارتطام أمواج الاهتمامات.
متى أدخل ومتى أخرج ؟ حينها ستنتقص فلوات الأوقات المفتوحة من أطرافها.
أخيرا ينبغي أن نتذكر أن هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأمة ستمضي كبقية الحقب شاهدة على آثار من مروا هنا، ولن يحسن التدوين فيها غير الرواحل الذين لم يفهموا الزهد مجرد سلوك، بل منجما زمنيا يصون الأوقات التي يصرفها المخذولون في الاهتمامات الصغيرة
قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)..