أحمد يحيى المبارك .
نحن في فترة يكثر فيها الحديث عن الحوار ، وخاصة السياسي والمجتمعي ، وقد سبق أن نشرت مقالا عن الحوار وضرورة التمسك به والعودة إليه كلما تعقدت الأمور ، لكن تلك المعالجة كانت أساسا عن الحوار السياسي ، وبما أنني لا أحب الإجترار فهذه المعالجة اليوم تتحدث عن مفهوم الحوار وأهميته ، وما يترتب على الحوار من ثمار ، أي حوار ، فردي أو جماعي أو دولي منطلقا من عناية القرآن والسنة بالموضوع ، والحديث عن الموضوع يطول ويتشعب ، لكن سوف أجمل أهم عناصر الموضوع باقتضاب وإجمال .
مفهوم الحوار : الحوار نوع من الحديث بين طرفين أو أكثر بحيث يجري الكلام بينهما متكافئا مع غلبة الهدوء ورحابة الصدر .
وهناك ألفاظ قريبة من مدلول لفظ الحوار كالجدال والمناظرة والمناقشة ونحوها من الألفاظ التي ترجع إلى طريقة البيان ، فهي بهذا الإعتبار مرادفة للحوار ، وباعتبار تميز بعضها عن بعض يكون بينها وبينه شيء من التباين حسب كل مقام ، ويبقى مع ذلك لفظ الحوار هو أعذبها وأرقها وأيسرها وأسيرها في الناس وأكثرها علوقا في النفس .
أهمية الحوار :
للحوار أهمية كبرى ومما يلي تتبين أهميته :
1_ شدة الحاجة إليه : فالحوار يحتاج إليه كل إنسان حال معاملته لغيره ، فيحتاجه أفراد الأسرة فيما بينهم آباءً وبنين وأزواجا ، كما يحتاجه المدرس مع تلاميذه والموظف مع مرؤوسيه وعملائه ، والعامل مع مستخدميه ، والقاضي في فهم الدعاوى وتنزيل أحكامه ، والعالم والداعية في تصديهما للناس ، والسياسي في كسب جمهوره ومنتخبيه ، والحاكم مع رعيته في ما يجلب لهم المصالح ويدرأ عنهم المفاسد ، ويحتاج إلى الحوار حالَ السلم والحرب ، وحال َ البيع والشراء ، وحال الوفاق والخلاف .
2_ عناية القرآن بالحوار : فقد اعتنى القرآن الكريم بالحوار أيما عناية ولا غرابة في ذلك ، فالحوار هو الطريق الأقوم والأنجع للإقناع الذي ينبع من الأعماق .
وفي القرآن نماذج كثيرة متنوعة تبين أهميته وقدمه وشدة الحاجة إليه ، ومن الأمثلة على ذلك ما دار بين الرب سبحانه وملائكته عندما أراد _عز وجل_ أن يجعل في الأرض خليفة كما في سورة البقرة ( الآية 30) .
وقصة الخضر مع موسى في سورة الكهف .
وقصة داود مع الخصمين في سورة ص ( الآية 22).
وهذه مواقف ونماذج قليل للتمثيل فقط مما احتواه القرآن الكريم من حوارات ، ويمكن الرجوع لها ولغيرها عند تلاوة المصحف الشريف .
3_ عناية السنة بالحوار : فالناظر في السنة المكرمة والسيرة الشريفة يرى رأي العين أنها حافلة بالحوار في أرفع درجاته وأسمى طرائقه وأساليبه ولا غرو ، ونشير فقط إلى الحوار الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وعمه أبي طالب الذي ختمه بكلمته الذهبية : (والله لو جعلوا القمر عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته ) ، وحواره في صلح الحديبية مع ممثل قريش سهيل ابن عمرو الذي ظهر فيه كم تنازل المسلمون من تنازل عن هدف ومصلحة آنية من أجل هدف استراتيجي ومستقبلي كان بداية الفتح العظيم ، وحواره مع الشاب الذي جاء إليه يريد أن يرخص له في الزنا وكان مما قال له فيه : ( هل ترضاه لأمك ؟ قال : لا ، هل ترضاه لأختك ؟ فقال : لا ، وختمه بقوله صلى الله عليه وسلم : إن الناس لا يرضونه لأمهاتهم ولا لأهليهم ....) حتى اقتنع الشاب ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فكان الزنا أبغض شيء إليه بعد ذلك .
4_ كثرة الحديث عن الحوار : فمن مظاهر العناية بالحوار في هذا العصر كثرة الحديث عنه والكتابة فيه وشيوع تخصص يتصل به ألا وهو فن العلاقات العامة الذي لا تستغني عنه أية مؤسسة رسمية أو خاصة ، سياسية أو اقتصادية .
5_ اهتمام كتب التراث به فقد عقدوا فيها أبوابا خاصة بآداب المناظرة والجدل بالتي هي أحسن .
6_ كثرة المؤلفت المعاصرة التي تتناوله وتبين أصوله وآدابه ومقوماته ..إلخ .
فائدة الحوار وثماره : فللحوار المنهجي المنضبط والمتكافئ آثاره الجميلة في حل المشاكل العالقة وهو مفيد في إيصال الفائدة العلمية للآخرين ، ومفيد في تدريب المحاور نفسه على رحابة الصدر وتقبل الآخر وضبط نفسه وقلمه ولسانه ، ويقوي لدى الجميع قوة وملكة المحاكمة والتفكير المتزن والنظر بعيون الآخرين إلى قضاياهم ومواقفهم مما يجعله مقبولا من الآخر ويسهل اقتناعه بالجانب الصواب في الآخر ويمهد لوجود أرضية مشتركة للجميع .
وبالحوار الناجح تستجلب المودات وتوؤد العداوات وتدر وتدار التجارات ويزداد العلم ويتسع الفكر وتجلب المصالح وتدرأ المفاسد.