أما بعد : إن من أعظمِ الأمانات أمانةُ النفس ، فهي أعظمُ من أمانةِ الأموالِ والأولاد ، أقسمَ الله بها في كتابه ، ولا يقسمُ الله إلا بعظيم ، قال تعالى : ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( وقد جعلَ الله لهذهِ النفس طريقين : طريقُ تقوىً وبه تفوزُ وتُفلح ، وطريقُ فجورٍ وبه تَخسر وتَخيب .
والناظرُ في حالِ الناسِ اليوم ، يرى رُخص النفوسِ عند أهلِـها ، ويرى الخسارةَ في حياتِـها لعدمِ مُحاسبتِها ، والذين فقدوا أو تركوا محاسبةَ نفوسِهم سيتحسرون في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر ، يقول جل شأنه : } أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما ! فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين { .
وبتركِ محاسبة النفس تسلط الشيطانُ الذي دعا إلى المعصية ، وحذّر من الطاعة ، وزينَ الباطل ، وثبطّ عن العَملِ الصالح وصدّ عنه . وبتركِ محاسبة النفس تمكنت الغفلةُ من الناسِ ، فأصبحَ لهم قلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ لا يبصرونَ بها ، ولهم آذانٌ لا يسمعونَ بها ، أولئكَ كالأنعامِ بل هم أضل ، أولئكَ هم الغافلون .
يقول جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
يقولُ ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – في تفسيرِ قولِه تعالى : { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } : (( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافيه )) انتهى كلامه رحمه الله .
* ويترتبُ – كذلكَ – على ترك محاسبة النفس أمرٌ هامٌ جداً ، ألا وهو هلاكُ القلب ، هـلاكُ القلب ! يقولُ ابنُ القيّم – رحمه الله - : " وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها " .
وقالَ رحمه الله في إغاثةِ اللهفان : " وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها ، فإنَّ هذا يقولُ بهِ إلى الهلاكِ ، وهذه حالُ أهلِ الغرور ، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال ، ويتكلُ على العفو ، فيهملُ محاسبة نفسهِ والنظرُ في العاقبة ، وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها وعَسُرَ عليه فِطامُها ولو حَضَرَه رُشْدَه لعلِم أنّ الحميةَ أسهلُ من الفِطام وتركُ المألوف والمعتاد " انتهى كلامه رحمه الله . وكتبَ عمرُ بن الخطابِ t إلى بعضِ عمُّالِهِ :
(( حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة ، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة ، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة )) .
وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم
يقول : يا حُنيف ، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟
وقال الحسن – رحمه الله - : " إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته ، يستقصرها في كل ما يفعل ، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه " .
فيجبُ أن يكونَ المؤمنُ محاسباً لنفسهِ مهتماً بها ، لائماً على تقصيرِها قال الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه الله تعالى : (( ومن تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف ، ونحن جمعنا بين التقصير ، بل بين التفريطِ والأمن )) .
هكذا يقولُ الإمامُ ابن القيمِ عن نفسه وعصره !
فماذا نقولُ نحنُ عن أنفسِـنا وعصرِنا ؟!
* * *
· ولمحاسبةِ النفس نوعـان : نوعٌ قَبلَ العمل ، ونوعٌ بعدَه .
§ النوعُ الأول : محاسبة النفس قبل العمل :
وهو أن ينظرَ العبدُ في هذا العمل ، هل هوَ مقدورٌ عليهِ فيعملَه ، مثل الصيام والقيام . أو غيرَ مقدورٍ عليهِ فيتركَه . ثم ينظر هل في فعله خيرٌ في الدنيا والآخرة فيعملَه ، أو في عملِه شرٌ في الدنيا والآخرة فيتركَه . ثم ينظر هل هذا العمل للهِ تعالى أم هو للبشر ، فإن كان سيعملُه لله فعلَه ، وإن كانت نيتَهُ لغيرهِ ترَكه .
§ النوع الثاني : محاسبة النفس بعد العمل : وهو ثلاثة أنواع :
* النوعُ الأول : محاسبة النفس على طاعاتٍ قصَّرتْ فيها .
كتركها للإخلاصِ أو للمتابعة ، أو تركِ العمل المطلوب كترك الذكر اليومي ، أو تركِ قراءةِ القرآن ، أو تركِ الدعوة أو ترك صلاةِ الجماعة أو ترك السننِ الرواتب . ومحاسبة النفس في هذا النوعِ يكون بإكمالِ النقص وإصلاح الخطأ ، والمسارعةِ في الخيرات وترك النواهي والمنكرات ، والتوبةِ منها ، والإكثارُ من الاستغفار ، ومراقبةُ اللهِ عز وجل ومحاسبة القلب والعمل على سلامتِه ومحاسبةُ اللسان فيمـا قالَه ، وإشغالِه إما بالخيرِ أو بالصمت ، وكذلك يكونُ بمحاسبة العين فيما نظرت ، فيطلقها في الحلالِ ويَغُضُّها عن الحرام ، وبمحاسبة الأُذن ما الذي سَمِعته ، وهكذا جميعِ الجوارح .
* النوعُ الثاني من أنواع محاسبة النفس بعد العمل :
أن يحاسبَ نفسَهُ على كلِّ عملٍ كانَ تركُهُ خيراً من فعله ؛ لأنهُ أطاعَ فيه الهوى والنفس ، وهو نافذةٌ على المعاصي ، ولأنهُ من المتشابه ،
يقولُ صلى الله عليه وسلم : (( إن الحلال بَيِّن ! وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثيرٌ من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقعَ في الشبهات وقع في الحرام )) . ويقولُ عليه الصلاة والسلام : (( دع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك )) .
* والنوع الثالث :
أن يُحاسبَ الإنسانُ نفسَه على أمرٍ مباح أو معتاد : لـمَ فعله ؟ وهل أرادَ به الله والدارَ الآخرة فيربح ، أم أرادَ به الناسَ والدنيا فيخسر ذلك الربح ويفوتَهُ الظَفَرُ به .
* * *
· ولمحاسبة النفس فوائدٌ جمّةٌ ، منها :
أولاً : الإطلاعُ على عيوبِ النفس ، ومن لم يطلع على عيبِ نفسِه لم يمكنهُ معالجتُه وإزالته .
ثانيـاً : التوبةُ والندمُ وتدارك ما فات في زمنِ الإمكان .
ثالثـاً : معرفةُ حقُ اللهِ تعالى ، فإن أصلَ محاسبةُ النفس هو محاسبتُـها على تفريطها في حقِ الله تعالى .
رابعـاً : انكسارُ العبد وتذلُلَه بين يدي ربه تبارك وتعالى .
خامساً : معرفةُ كرَمِ الله سبحانه ومدى عفوهِ ورحمتهِ بعبادهِ في أنه لم يعجل لهم عقوبتَهم معَ ما هم عليه من المعاصي والمخالفات .
سادسـاً : الزهد ، ومقتُ النفس ، والتخلصُ من التكبرِ والعُجْب .
سابعـاً : تجد أنَّ من يحاسبُ نفسَهُ يجتهدُ في الطاعةِ ويترُكُ المعصية حتى تَسهُلَ عليهِ المحاسبةُ فيما بعد .
ثامنـاً : ردُ الحقوقِ إلى أهلِـها ، ومحاولةُ تصحيحِ ما فات .
وغيرها من الفوائد العظيمة الجليلة .
· وهناكَ أسبابٌ تعينُ المسلمَ على محاسبةِ نفسهِ وتُسهِّلُ عليهِ ذلك ، منها ما يلي :
1. معرفةُ أنك كلما اجتهدت في محاسبةِ نفسكَ اليوم ، استراحتَ من ذلك غداً ، وكلما أهملتها اليوم اشتدَّ عليكَ الحسابُ غداً .
2. معرفةُ أنَّ ربحَ محاسبة النفس هو سُكْنى الفردوس ، والنظرُ إلى وجهِ الربِ سبحانه ، وأنَّ تركها يؤدي بك إلى الهلاكِ ودخولِ
النار والحجابِ عن الرب تبارك وتعالى .
3. صحبةُ الأخيار الذينَ يُحاسبونَ أنفسَهُم ، ويُطلِعونَك على عيوبِ نفسِكَ ، وتركُ صحبة من عداهم .
4. النظرُ في أخبارِ أهل المحاسبةِ والمراقبة ، من سلفِنا الصالح .
5. زيارةُ القبورِ والنظرُ في أحوالِ الموتى الذين لا يستطيعونَ محاسبةَ أنفسِهم أو تدارُكِ ما فاتَـهم .
6. حضورُ مجالس العلمِ والذكر فإنها تدعو لمحاسبة النفس .
7. البعدُ عن أماكن اللهوِ والغفلة فإنها تُنسيكَ محاسبةَ نفسك .
8. دعاءُ اللهِ بأن يجعلك من أهلِ المحاسبة وأن يوفقك لذلك .
كيفَ أحاسبُ نفسي ؟
سؤالٌ يترددُ في ذِهن كل واحدٍ بعدَ قراءةِ ما مضى .
وللإجابة على هذا التساؤل :
ذكرَ ابنُ القيم أن محاسبةَ النفس تكون كالتالي :
أولاً : البدءُ بالفرائض ، فإذا رأى فيها نقصٌ تداركهُ .
ثانياً : النظرُ في المناهي ، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية .
ثالثاً : محاسبةُ النفس على الغفلةِ ، ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم .
رابعاً : محاسبةُ النفس على حركاتِ الجوارح ، وكلامِ اللسان ، ومشيِ الرجلين ، وبطشِ اليدين ، ونظرِ العينين ، وسماعِ الأذنين ، ماذا أردتُ بهذا ؟ ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟