أعدمت المهندسة السنية ريحانة الجباري ذات الـ26 سنة، ثارت لشرفها فقتلت من سامها الدنية، وثارت إيران لفضيحة ضابطها الشهواني الذي حاول اغتصاب الفتاة في مكتبه، قررت إيران كلها الحكم بالإعدام على فتاة ذنبها أنها سنية شريفة.
أعرف أن كثيرين لا يعلمون شيئا عن قصة هذه الفتاة الشهيدة، وذلك أحد أسرار استمرار معاناة أهل السنة في إيران الطائفية، بل وسر امتداده إلى العراق السنية سابقا.
تماديا في الإيذاء، اتصلت إدارة السجن بأم ريحانة وسمحت لها لها بزيارة مطولة لابنتها وعند انتهاء وقت الزيارة سلمتها كل متعلقاتها وتركتها وحيدة تنتظر شمس السبت لتغمض عينيها عن عالم الحيف والظلم.
لا أعرف مدى قدرة أم ريحانة على الصبر، وما كنت ثاويا بينهما ساعة اللقاء، ولكن أعرف أنه كان لقاءً تغمره الدموع اليائسة، دموع أم تودع بنتها إلى الموت، ما الذي أوصتها به؟، لست أدري بالضبط ولكنني أجزم أن لغة الروح تناثرت في تلك الزنزانة، ستقول ريحانة لأمها: سامحيني، وستغض الأم من طرفها قائلة بنبرة تخنقها العبرات: أنا من عليه أن يسألك المغفرة، أنت نصفي الذي ذهب إلى الجنة، ليتهم أعدموني معك أو نيابة عنك.
أصعب موقف أن تتحدث إلى شخص قد مات بقوة القرار الذي لا تملك له دفعا، أما إذا كان فلذة كبد فلا أصدق أن في طوق المرء أن يتحمل النظر إليه أكثر من مرة.
رجعت الأم تاركة بنتها في بهو القبر، زنزانتها التي ستغادرها باتجاه ساحة الإعدام، وودعت البنت أمها من داخل قبرها المؤقت، أيهما أطول ليلا، أمُّ ريحانة أمْ ريحانة نفسها! لو قدر لفنان أن يكتب عن تلك الساعات التي تعيشها كلتا الروحين لكتب رواية تتجاوز صفحاتها عدد أهل السنة في العالم، ولكانت تراجيديا الزمن القادم كله.
لست متأكد أن ريحانة كانت تحفظ قصيدة هاشم الرفاعي (ليلة التنفيذ)، ولا أدري هل أمها سمعت قصيدة عائشة التيمورية في رثاء ابنتها توحيدة، كل الذي أدريه أن الفتاة تعدم في ظرف مشابه لجو قصيدة الرفاعي، الموت في سبيل الشرف، وأن الأمهات يحملن مشاعر واحدة، هي مشاعر الأم.
ما أعرفه أيضا أن معاني من قصيدة الرفاعي طافت مخيال ريحانة ولو بشكل نثري، من قبيل:
لم تبق إلا ليلة أحيا بها....وأحس ان ظلامها أكفاني
ستمر يا "أماه"، لست اشك في...هذا ويحمل بعدها جثماني
ومن قبيل:
كل الذي أدريه أن تجرعي....كأس المذلة ليس في إمكان
أهوى الحياة "عفيفة"، لا "ذل"، لا "إسفاف"، لا استخفاف بالأديان
كما أن خيال أمها المجروح طاف ولو معنى بقول التيمورية في بنتها الراحلة:
لو بث حزني في الورى لم يلتفت....لمصاب قيس والمصاب كبير
طافت بشهر الصوم كاسات الردى......سحراً وأكواب الدموع تدور
فتناولت منها ابنتي فتغيرت...............وجنات خد شأنها التغيير
فذوت أزاهير الحياة بروضها..... وانقد منها مائس ونضير
ليلة لم تنم كلتا المرأتين، ليلة صباحها بداية رحلة ريحانة إلى عالم العدل ونهاية فرح أمها في عالم الجور.
كتب التاريخ بمداد الشرف أن فتاة سنية لم تكمل عقدها الثالث تقدمت واثقة الخطو ووقفت شامخة الرأس واستقبلت الموت الزؤام راضية، واختارت شرفها وعفافها على العيش في عالم مسعور بالشهوة وسقط المتاع،
كما كتب التاريخ أيضا في رأس السطر من نفس الصفحة أن دولة تسمى إيران قررت بكل أجهزتها أن تنتقم من تلك الفتاة التي مرغت أنفها في الرجس والعفن حين قتلت ضابط استخبارات وهي لم تكمل العشرين، لأنه حاول اسقاطها من علياء كبريائها المؤمنة إلى هاوية شبقه الحيواني المغلَّف بتطرف طائفي.
وفي هامش الصفحة ذاتها كتب أن مئات الملايين من السنة لم يعبأوا بإعدام تلك الفتاة العفيفة.
رحم الله ريحانة الجباري وتقبلها في الشهداء، وجمعنا بها في الجنة لنقيم لها حفل اعتزاز وافتخار
نقلا عن صفحة الكاتب على الفيس بوك