فصل في أن من شروط الاستقلال التخلص من عقائد العدو وتشريعاته وتدخلاته
اعلم أنه شاع لهذا العهد مصطلح مترجم عن لغة الفرنجة هو : الاستقلال ويراد به خروج عسكر الحربيين عن البلاد و التخلية بين الناس وشؤونهم.
ولا شك أن التخلص من العدو والنجاة من قهره وبطشه وظلمه وبغيه نعمة من نعم الله العظيمة قال الله عز وجل ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) ( المائدة : 20)
فقد فسرت الآية بأن الملِك هنا من كان له امرأة وخادم وبيت روى الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا سأله فقال ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله أ لك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم قال أ لك مسكن تسكنه ؟ قال نعم قال فأنت من الأغنياء فقال إن لي خادما قال فأنت من الملوك ؟
كما فسرت الآية بكونهم أحرارا قال السدي ( وجعلكم ملوكا ): يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله رواه الطبري وابن أبي حاتم .
والمعنى الجامع لهذه الأقوال – كما يقول صاحب المنار- "أن المراد بالملك الاستقلال الذاتي والتمتع بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف وسياسة البيوت ."
قال : " فهو تعظيم لنعمة الحرية والاستقلال بعد ذلك الرق والاستعباد . "
وإنما كان الاستقلال نعمة لما توجبه غلبة الأعداء من المذلة المانعة من المدافعة والمغالبة والمناقضة لتكريم الله لبني آدم عموما والمناقضة للعزة التي وهبها الله للمسلمين خصوصا ،
" واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا ( إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون )( المائدة : 22) وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقابا … فعاقبهم الله بالتيه وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض من بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران ولا نزلوا مصرا ولا خالطوا بشرا … ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة فنشأت بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ."
لا شك إذا أن الاستقلال نعمة عظيمة ، غير أن كثيرا من الناس يغلط في فهم معنى الاستقلال، فيظن أن هذه النعمة تتم بمجرد خروج عسكر العدو عن البلاد ،ورفع راية غير رايتهم واتخاذ شارة للملك غير شارتهم ، فيستنيمون لذلك ويتخلون عن الجهاد لتحقيقه، والصحيح أن الاستقلال لا يتم إلا إذا توفرت أربعة شروط :
الشرط الأول : أن يتم التخلص من عقائد العدو وأخلاقه وأعماله ، وذلك أن الناس إنما يتمايزون بهذه الأمور ، فمن آمن بعقيدة العدو ، وتخلق بأخلاقه ، وعمل مثل عمله فقد صارجزءا من العدو ولا يتصور استقلاله عنه، وتأمل في ذلك قول الحق سبحانه وتعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )( المائدة : 51) ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء )( المائدة : 81) وقوله صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " رواه أحمد وأبو داود وصححه الحافظ العراقي وحسنه ابن حجر .
ويدل على ذلك أن العدو كان يحرص أشد الحرص كلما هم بالرحيل عن بلد أن يستخلف في ذلك البلد خلفاء من هذا النمط على حد قول القائل : أنا من أهوى ومن أهوى أنا
الشرط الثاني : التخلص من شرائع العدو والتحاكم إلى شريعة الله والحكم بها ، ذلك أن التحاكم إلى قوانين العدو إيمان بها وبهم ، ويستتبع ذلك بالضرورة التفقه في هذه القوانين ، وتعلمها وتعليمها وحفظ متونها وشروحها وحواشيها واختلاف أهلها ، ودراسة كتب القواعد والفروق والأشباه والنظائر فيها ، ويتطلب ذلك بداهة التتلمُذَ عليهم والرجوع إليهم فيما أشكل أمره ، وذلك كله مناقض للاستقلال .
الشرط الثالث : التخلص من التشبه بهم واتباع طريقتهم ، لأن التشبه فرع الإعجاب بهم ، والإعجاب يستدعي التشبث بالعدو لا الاستقلال عنه ، و التشبه بهم يقتضي تطلب علم ذلك والتدرب عليه ، وإنفاق الوقت في إتقان كيفياته، حتى يكون المتشبِّه مساويا للمتشبَّه به وكلها أمور تتضمن الالتحام بهم لا الاستقلال عنهم ، ومن المعلوم أن التشابه في الظاهر يستتبع التشابه في الباطن وقد تفطن لذلك أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي وشرحه في كتابه : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم .
الشرط الرابع رفع يد العدو عن ممتلكات الأمة في البر والبحر، من المعادن السائلة والجامدة ، والأسماك بأنواعها المختلفة ، والمياه العذبة والأرض الخصبة ،وسائر أموال الأمة ثم التصرف في ذلك كله على ما تقتضيه المصلحة ، وبدون توفر هذا الشرط لا يكون استقلال .
فعلم بما تقدم أن الاستقلال لا يتم بمجرد خروج عساكر الحربيين من بلاد المسلمين ، ( والله وحده الناصر والمعز لا رب سواه ولا إله إلا هو . )
نقلا عن صفحة الشيخ على الفيس بوك