إن حجم المعارف التي يتلقاها الإنسان المعاصر ربما تفوق بأضعاف كثيرة تلك التي كان يتلقاها الإنسان في ما قبل الثورة الصناعيّة، حيث غدت المعرفة تواجهه وتسقط عليه حتى في غرفة نومه، ولا يحتاج للوصول إليها سوى تقليب الأجهزة الصغيرة التي بين يديه والتي باستطاعتها أن تنقله من عالَم إلى آخر، بينما كان البخاري يركب ناقته لتسير به شهرا حتى يسمع الحديث أو الحديثين، وإذا كان علماؤنا يجهدون في الحفظ، فإنّ محركّات البحث السريع قادرة اليوم على توفير المعلومة وأخواتها وقريباتها بأقل مما يحتاجه الحافظ لاستذكار حفظه، ومع كل هذه الطفرة الهائلة فإنّ مخرجاتنا اليوم لا تقاس بتلك المخرجات، على الأقل في دائرة المعرفة الإسلامية وعلوم التاريخ والمجتمع، فلم يظهر عندنا محدّث كالبخاري ومسلم، ولا فقيه كأبي حنيفة ومالك، ولا مؤرّخ كالطبري وابن كثير، ولا عالم اجتماع كابن خلدون والمقريزي، ولا فيلسوف كالغزالي وابن رشد.